ملاحظات صغيرة حول الاتفاق المعجزة

TT

يلفت النظر جدا، هذا الاهتمام العالمي الكبير بالوثيقة الافتراضية المسماة «وثيقة جنيف». فهي وثيقة غير رسمية، بادر إليها أشخاص غير رسميين، وتواجه برفض من أوساط شعبية إسرائيلية وفلسطينية. ولا يمكن تفسير هذا الاهتمام الدولي الواسع إلا بكون هؤلاء الأشخاص غير الرسميين من الجانبين، كانوا يعملون بناء على توجيه، أو رغبة، من جهات دولية، فالمشروع هو مشروعهم وليس مشروع هؤلاء الحفنة من الأشخاص.

ونريد بداية أن نسجل ملاحظة هامة، فقد شاع كثيرا القول بأن المتطرفين من الجانبين هم الذين يؤججون العنف، وهم الذين يعرقلون منطق التسوية، وهذا قول غير صحيح بالمطلق، لأنه لا يجوز أبدا عقد مقارنة بين تطرف الإسرائيليين وبين ما يسمى تطرف الفلسطينيين، فالمتطرفون الإسرائيليون يريدون المزيد من الاستيلاء على أراضي الغير، ويريدون طردهم وتهجيرهم، أما من يسمون بالمتطرفين الفلسطينيين فيدافعون عن حقهم في استمرار ملكيتهم لأرضهم ووطنهم. وحين يتكرس هذا الخطأ في المقارنة، وحين لا تتم رؤية الفارق النوعي بين التطرف الإسرائيلي وما يسمى بالتطرف الفلسطيني، تنشأ النظرية الخاطئة الثانية التي تقول إنه لا بد من تسوية تقوم على أساس الحل الوسط. الحل الوسط هنا يعني أن يحقق المتطرف الإسرائيلي جزءا من عدوان، وأن يتنازل «المتطرف» الفلسطيني عن جزء من حقه. ولذلك فإن أصحاب تسوية الحل الوسط هذه، يرفضون المنطق الذي يدعو إلى اعتماد قرارات الشرعية الدولية أساسا للتسوية، لا بل إنهم يستهجنون هذا المطلب، ثم يخترعون اقتراحات لتسوية على غرار «وثيقة جنيف».

وفي إسرائيل كاتب يهودي ذو ضمير حي، عرف بكتاباته الجريئة ضد الممارسات الإسرائيلية القمعية للاحتلال الإسرائيلي، وكتب نصوصا نالت درجة من الانتشار ارتاح لها الفلسطينيون. هذا الكاتب هو ديفيد غروسمان، وهو ايضا من محبذي «وثيقة جنيف»، ولكن لماذا؟ إن السبب الرئيسي الذي ابرزه وركز عليه هو أن هذه الوثيقة تلغي قرارات الأمم المتحدة الكثيرة التي تم اتخاذها لصالح الفلسطينيين وضد إسرائيل. وإذا كان حتى كاتب من نوع غروسمان يخاف قرارات الشرعية الدولية إلى هذا الحد، فكيف هو حال الإسرائيليين الآخرين الذين يدعون إلى الترحيل والترانسفير؟

إن العالم يهلل لأن اتفاقا افتراضيا تم إنجازه خارج إطار الشرعية الدولية، ويظنون بأنه يكفي أن يتم تسجيل بند يقول بأن هذه الوثيقة تقوم على أساس الشرعية الدولية، ثم يتم تحت هذا البند تسجيل كل ما هو مناقض للشرعية الدولية، حتى تستقيم الأمور، ما دام الفريقان المتفاوضان قد اتفقا على نسف هذه الشرعية الدولية، وتسميتها اتفاقا على حل وسط.

في مفاوضات كامب ديفيد التي تمت في شهر تموز (يوليو) 2000 برعاية الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، برزت هذه المسألة بوضوح كامل، وأدار كلينتون مفاوضات تقوم صراحة على تجاهل قرارات الشرعية الدولية. كان الإسرائيليون يقدمون اقتراحا من عندهم وحسب رغباتهم، ويرد الفلسطينيون مطالبين بتطبيق قرار الشرعية الدولية في هذا الصدد، وقد تكرر الأمر حتى أن الرئيس غضب في إحدى الجلسات (وكان الموضوع يدور حول الأرض) وشن هجوما عنيفا على أحمد قريع (ابو علاء) رئيس وزراء فلسطين الحالي، لأنه رفض التعاطي مع خارطة إسرائيلية معروضة، وقال له: سأعلمك درسا في التفاوض، حين يقدم طرف اقتراحا ما فعليك أن ترد عليه باقتراح آخر، وألا تكتفي بالقول انك ترفض هذا الاقتراح. لقد قاتل كلينتون بكل ما كان له من وزن لكي يقنع الفلسطينيين بأن يقدموا اقتراحات خارج إطار الشرعية الدولية، وحين لم ينجح في ذلك، وصلت مفاوضات كامب ديفيد إلى طريق مسدود وفشلت. أما الذين أنجزوا «وثيقة جنيف» الافتراضية فقد تجرأوا ونسفوا قرارات الشرعية الدولية بكل ثقة واطمئنان، وصفقت لهم دول العالم التي تقول دائما إنه يجب احترام الشرعية الدولية.

وحين وصل ياسر عبد ربه إلى واشنطن، ظهر أمام شاشات التلفزيون مبتسما وفرحا وقال: إن وثيقة جنيف تقوم على أساس الشرعية الدولية. وقال: إن هذه الوثيقة هي أقرب ما تكون إلى ما جرى في مفاوضات طابا (تمت بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد وتوقفت فجأة بقرار من إيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل آنذاك). لقد كان ياسر عبد ربه رجلا فاعلا جدا في مفاوضات طابا، وهو ليس من النوع الذي ينسى، ولكن لماذا ينسى هنا بالذات أنه تقدم في مفاوضات طابا بمذكرة فلسطينية رسمية عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، كانت المذكرة الفلسطينية الوحيدة المكتوبة؟ ولماذا ينسى هنا بالذات أن الإسرائيليين ردوا على المذكرة الفلسطينية بمذكرة أخرى مكتوبة، كانت هي المذكرة الوحيدة المكتوبة في تلك المفاوضات؟ ولماذا ينسى هنا بالذات، أن ما جرى في وثيقة جنيف هو أن السيد ياسر عبد ربه سحب المذكرة الفلسطينية، وتبنى المذكرة الإسرائيلية بالكامل، وهي التي ترفض حق العودة وتركز فقط على التعويض والتوطين؟ ثم يتجرأ السيد ياسر عبد ربه ويقول في واشنطن إن اتفاق جنيف يقوم على أساس الشرعية الدولية. ولا بأس ان نسأله هنا: والمذكرة التي قدمتها في طابا ألم تكن تستند إلى الشرعية الدولية، وإلى القانون الدولي، وإلى شرعة حقوق الإنسان؟ وهل يستقيم القول قبل سنتين إن الشرعية الدولية تقضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأرض التي اقتلعوا منها، وأن نقول بعد سنتين إن الشرعية الدولية تتحقق بالتنازل عن حق العودة والقبول بالتعويض والتوطين فقط؟ وهل أصبحت الشرعية الدولية مرادفا للمتطرفين الفلسطينيين الذين يجب التخلص منهم وإقصاؤهم؟

وقد ثار جدل طويل منذ أن ظهرت وثيقة جنيف حتى الآن، وتركز الجدل حول القدس وحول حق العودة، وهما قضيتان كفيلتان بأن يؤدي التفريط فيهما إلى نسف عشرة اتفاقات مماثلة، ورغم ذلك فلنضعهما قليلا جانبا، ولننظر إلى بنود اساسية أخرى في الاتفاق.

حين نقرأ الوثيقة نجد فيها 44 إشارة إلى ما يسمى (الملحق X) الذي يشرح بنودها ويفسرها. الملحق X هذا لم ينشر مع الوثيقة التي وزعت بالانجليزية على المحتفلين في جنيف، ولا نعتقد أن المحتفلين الأربعمائة قد قرأوه، ونحن والحالة هذه مدعوون إلى الموافقة على اتفاق لم نقرأه بالكامل، وعلينا بالرغم من ذلك أن نفرح ونهلل.

وفي الاتفاق ثلاثة بنود وردت بعناوينها ومن دون أي شرح أو تفصيل، أي أنها لم تبحث ولم يتفق عليها، وهي المياه، والعلاقات الاقتصادية، والتعاون القانوني. ونحن والحالة هذه مدعوون إلى الموافقة على اتفاق لم يتم إنجازه. وإذا كان الاتفاق يتنازل عن حق العودة، فهل سيتنازل أيضا عن حق الشعب الفلسطيني في مياهه؟ ربما.

ويتم الترويج لوثيقة جنيف على قاعدة أنها توفر دولة فلسطينية ذات سيادة. ولكن هذا هو ايضا ادعاء غير صحيح لأسباب ثلاثة: قضية المياه التي لم تبحث حتى الآن ومصيرها المجهول. وقضية السيادة على الأجواء والتي ورد فيها بالحرف أن «إسرائيل تستخدم المجال الجوي الفلسطيني لأغراض التدريب العسكري على غرار استخدام سلاح الجو الإسرائيلي للمجال الجوي الإسرائيلي». وأخيرا قضية السيادة على المعابر، حيث ستوجد إسرائيل بشكل دائم مع قوة أمن فلسطينية، وقوة أمن متعددة الجنسيات، ويحق لإسرائيل وحدها أن تعترض وأن تحجز أي شخص أو بضاعة، حتى بعد أن يوافق عليها الأمن الفلسطيني أو أمن القوة الدولية. وهل يبقى بعد هذه القضايا الثلاث دولة فلسطينية ذات سيادة؟

لعل ابتسامات الفرح على وجه السيد ياسر عبد ربه في واشنطن تقدم لنا الجواب.