كاهن الاعترافات الشريرة

TT

حين نشرنا في «الشرق الأوسط» قبل سنوات مذكرات «لميعة عباس عمارة» بكل ما فيها من سياب وبياتي وجواهري وجيل كامل من ابرز شخصيات العراق والعالم العربي كنا نعرف اننا نكتب تاريخا ثقافيا مختلفا ظل سريا لنقص أدب الاعتراف في الثقافة العربية وندرته او غيابه بالكامل إن شئنا الدقة والموضوعية.

واكملنا وقتها المشروع الطموح بارسال علي العميم الى عمان ليساعد في حفر وحك ذاكرة «الراعي احسان عباس» وكان ما اخرجه ذلك الصحافي اللامع من خبايا واسرار شيخ المحققين والاكاديميين جديرا بالاعجاب بالرغم مما كان احسان عباس يقوله عن نفسه بأن حياته مملة وعادية ولا شيء فيها يستحق الرواية. وحاولنا لاحقا ـ وفشلنا ـ في كتابة سيرة بدوي الجبل من خلال اوراقه التي ما تزال تحتفظ بها شقيقته في الرياض، لكننا نجحنا في تعويضها بالسيرة الثقافية لمحمد شكري «غوايات الشحرور الأبيض» التي صارت علامة فارقة في نتاجه، وقد كرمني الصديق الراحل حين طلب مني ان اختار لها العنوان وان اكتب لها المقدمة التي تليق بها.

وحين يطلب منك أديب ناشئ ان تقدم كتابه فهو يبحث قطعا عن يد تمتد اليه وسلم يصعد عليه وهذا حقه وحق كل شاب موهوب وشابة موهوبة، لكن حين يطلب منك أديب كبير ان تقدمه فهذه علامة محبة صافية يقول من خلالها انه يثق برأيك وبقدرتك على انارة ما كتب والاضافة اليه، فدوما في الادب هناك زيادة للمستزيد وبقية لمتردم. وقد احترت حينها بهذا الطلب من الاديب الراحل وعذبني اختيار اسم الكتاب اكثر من تقديمه. فقد لعبت على تلك المقارنات الخفيفة بين الكاتب الذي عاش فقره على الأسطح وشاطئ البحر وبين النوارس والشحارير وعصافير الدوري. وكان تعلق محمد شكري بشحرور اسود هو الذي اطلق شرارة التسمية في ذهني، فافترضت ان المعرفة هي التي حولت الشحرور الاسود محمد شكري الى شحرور ابيض ناصع ومحلق بأناقة يحسده عليها شحارير الأسطح والشطآن.

وبعد ان تورطت وورطت الكاتب الصديق بذلك الاسم انتبهت الى العنصرية الخبيئة في ذلك الاختيار، ومما خفف وقعها ان كل الشحارير سوداء، وبالتالي لا مجال للعنصرية معها وبذا يظل الشحرور الابيض صناعة مخيلة لن تتكرر، ولن ينظر اليها الناس بسوء فهم لأن العنصرية كامنة في أسس لغتنا العربية فعندنا يوم اسود وسبتمبر اسود وحين ندعو على احد ندعو عليه فورا بسواد الوجه و كأن ذلك اللون ليس مسيطرا ومستساغا عند ثلث سكان الكرة الارضية. لقد ضحكنا كثيرا، محمد شكري وانا، حين انتبهنا الى عنصرية العنوان بعد ان تم طبع الكتاب، وفات اوان التعديل، وكان الاقبال الذي لاقاه الكتاب لا يشجع على اي تغيير او تبديل، فقد احب القراء سيرة محمد شكري الثقافية كما احبوا سيرته الذاتية في «الشطار» و«الخبز الحافي» وبعد وفاته وحين كثرت الاستشهادات بذلك الكتاب وباعترافات شكري لاحظت ان كوكبة من المعلقين منهم يعتبرون الكاتب المغربي الكبير كاهن اعترافات او «محترف الاعتراف دون تزويق» كما قال الليبي محمد السنوسي الغزالي. وهذا تعبير تنقصه الدقة، ففي الادب لا يوجد شيء دون تزويق مهما كانت حرارة الاعتراف، لكن عبقرية البعض ومنهم شكري تجعلهم يخفون بمهارة آثار الصنعة وهذا جزء من الموهبة والمران، فهل نسينا قول ييتس «ان قرض بيت من الشعر اصعب من قلع ضرس وقد يستهلك اسبوعا او شهورا، لكن ان لم يبد أنه ابن ساعته فكل صناعتنا في الفتق والرتق هباء».

اما الفلسطيني زياد خداش من رام الله فكان مبهورا بالمعترف الاكبر وبالأمي الذي صار اديبا كبيرا. وفي هذه رد عليه الدكتور محمد عبد الله من جامعة فيلادلفيا بالاردن بصورة غير مباشرة حين تساءل هل أمية شكري حقيقة أم انه بالغ في استغلالها لجاذبيتها؟ والفرضيتان صحيحتان فقد عانى شكري من الأمية وانتصر عليها ثم احسن استغلالها وبالغ في ذلك وهذا ما كان يعترف به لأصدقائه دون خجل فلا عيب ان تستغل ظرفاً حين لا تؤذي أحداً.

ورغم اعترافات شكري الشجاعة، كذلك اعترافات شريف حتاتة الجريئة ما يزال ادب الاعتراف في العالم العربي ضعيفا لقلة الشجعان الذين ينتظرون ان تتغير الدنيا ليكتبوا، ولا يعرفون ان شجاعتهم في كتابة ادب الاعترافات من الادوات الاساسية الفاعلة في التغيير الفكري والاجتماعي.

شكرا لكل الذين رثوا صديقي كاهن الاعترافات الشريرة «الشحرور الابيض» يوم رحيله وفي اربعينه ولن تكتمل محبتهم له التي عكسها رثاؤهم الحار الا اذا ادركوا مثله ان الاديب يبدأ رحلة التغيير من ذاته فمن لا يقدر على تغيير نفسه لن ينفع الآخرين ولن يستطيع تغييرهم مهما كان بليغا في الخطابة والكتابة.

[email protected]