أمريكا بين عرب الشاشة وعرب الواقع

TT

ما أن شرعت في كتابة هذا المقال عن أمريكا والعالم العربي حتى تراءى لي مئات الخطباء والعارفين بالأمر، وان بدأت في تصنيف هؤلاء من «جماعة الحلم العربي» الى جماعة «المشروع العربي» لازدحم المقال بالغث من القول على حساب وضوح الرؤية، ففي قول كثيرهم شطط خطابي رمى العرب في غياهب الجب التاريخي خلال الخمسين عاما التي خلت، وان نجاحات بعض الدول العربية في ادارة علاقاتها الخارجية كانت بالرغم من هذه الشعارات، لا بسببها.

بداية في العلاقات الدولية ليس هناك شيء اسمه العالم العربي، الا اذا خلطنا ما بين العلاقات الدولية والعلاقات العامة. العلاقات الدولية هي علاقات بين دول ذات سيادة، ومن يقول بعلاقات عربية امريكية، وكأن العرب دولة واحدة لها قيادة واحدة وعلم واحد، ووزير خارجية واحد هو قول حالم أو مخبول، نعم هناك دولة امريكية يدير علاقاتها الخارجية كولن باول وهناك دول عربية (لا تنسيق بينها وبينها كثير من التنافس والتطاحن) يديرها وزراء مختلفون من حيث فهمهم لمصالح اوطانهم (وهي مسؤوليتهم الأولى) وكذلك فهمهم لدورهم. هناك قليل من التوافق بين الدول العربية في بعض القضايا العالمية المطروحة مثل قضية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني أو الاحتلال الاسرائيلي للاراضي السورية، ولكن حتى في هذا التوافق كان هناك اختلاف ايام كان جيمس بيكر، ومادلين أولبرايت يتحدثان عن مسارات عملية السلام، كان هناك تنافس سوري فلسطيني، وان عدد الخوازيق والمقالب التي اعطاها الطرفان لبعضهما البعض، كافية لخراب مالطة وليس عملية السلام، مقالب تحت الطاولة وتضامن على صفحات الجرائد، اذن كيف نتحدث عن العالم العربي وامريكا اذا كان هذا هو السلوك في منطقة الشام.

واضرب مثالا آخر بمثلث السعودية ـ مصر ـ قطر، فكثير من الجهود المصرية في واشنطن افشلتها قطر، وكثير من التصورات السياسية السعودية ايضا افشلها نفس الطرف، على الاقل في زاوية ما اعرف من معلومات من هنا ومن واشنطن، اما العلاقات المصرية السعودية ففيها تنافس، بعد ان تخطت الصراع المباشر في فترة فيصل ـ عبد الناصر.

كل ما اود قوله لقارئي الطيب حسن النية هنا هو ان خوازيق العرب لبعضهم البعض في الساحة الدولية اكبر بكثير من خوازيق اسرائيل لبعضهم. في فترة شهر العسل الامريكي العراقي ايام الدكتاتور وفترة نزار حمدون في واشنطن شربت سوريا مثلا وكذلك مصر مقالب من العراق لا حد لها ولا حصر. اذن حكاية العلاقات الامريكية العربية هذه «خبص» اذا ما امتحنت بواقع الاحداث ونتائجها على الارض، كما انه ليس خافيا على الكثيرين تلك الشكوى المرة التي اشتكتها دولة عربية من عرفات عندما قالت «انه يصدر الينا صور القتلى على الشاشات ليهيج جماهيرنا علينا ويبتزنا للدفع» ورأي كثير من القائمين على السياسة في بعض الدول العربية من عرفات ليس بعيداً عن رأي الامريكيين أو الاسرائيليين فيه. هذا هو الواقع.

أما حكاية مبادرة الامير عبد الله وما حدث لها في بيروت من أجل تفريغها من مضمونها فحدث ولا حرج فيما يخص قضيتي التنافس والصراع والتناحر بين الدول العربية وبعضها البعض.

ومن هنا عزيزي القارئ، ما يقال في صحفنا عن التضامن العربي والجامعة العربية لا يصمد أمام اي اختبار حقيقي، واذا جاءك خطيب من نوعية هؤلاء مدغدغا فيك نخوة العروبة والشرف افضل لك ان تقول له ببساطة «امشي من هنا ياله (يا ولد) انته وهو». لأن الأمر انكشف اكبر مما يجب.

ان الخطاب الشعاراتي العربي الآن عن التنسيق العربي على مستوى الدول هو محاولة خلق جو من الضباب والدخان كي يلهي الناس عما يحدث من صفقات تحت الطاولة.

فهناك دولة «محتلة» تشجع المقاومة العراقية ضد الامريكان، «طيب ما تقاوم انته يا خويا الامريكان» لماذا هذا الاستقواء على العراقيين؟!

في عالم المعلوماتية وزيادة المعرفة بدأ الناس يكشفون الاعيب الخطباء، ولكن المدرسة الشعاراتية تراهن على انها تستخدم ثورة المعلومات لصالحها، فتضخ قنواتها الفضائية وصحفها حجما هائلا من الاكاذيب لخلق هذا الجو الضبابي الذي ذكرته آنفا لتمرير صفقات تحت الطاولة. لماذا لا يقدم هؤلاء الناس هذه الصفقات لشعوبهم، من سماحهم بتفتيش البنوك الى كثير من الامور الاخرى التي تمس السيادة الوطنية، لماذا لا يقدمون ذلك على صفحات الصحف كما يقدمون الشعارات؟! بالطبع انا لست ساذجا كي اتوقع شفافية في العلاقات الدولية، ولكن كل ما اريد قوله هو انها كذلك علاقات دولية بين دول ذات سيادة أو حتى منقوصة السيادة، ولكنها ليست بين منظومات ثقافية أو جماعات لغوية تربطها أواصر الشعارات.

لأي طالب علاقات دولية ان يحلل ما يدور في اي اجتماع للجامعة العربية، تحليل قضايا وتحليل مضمون ليرى بنفسه ان مسألة التنسيق العربي هذه وهم.

الفارق بين الامريكيين والاسرائيليين في هذا الشأن وبعض الدول العربية هو ان الامريكيين يعرفون ان ما امامهم هو «شو» أو عرض مسرحي يقبلون به «لزوم الشغل» ولكنهم يتعاملون مع الواقع ببرود، يتعاملون مع قطر بطريقة ومع مصر بأخرى، ومع المملكة العربية السعودية بثالثة، ومع سوريا بشكل آخر تماما. نفس الشيء بالنسبة للسياسة الخارجية الاسرائيلية حيث يقبلون ظاهرة الشعارات اذا كانت تخدم مصالحهم وتخدم انابيب الغاز بين اسرائيل وقطر مثلا.

اذن، ان «يؤكل الساسة ومروجو الشعارات الجماهير هوا» على حد قول اهل لبنان، هو امر مكشوف سواء أكان «هوا» الفضائيات الحي أو «هوا» عبد الحليم حافظ في «الهوى هواي».

في رأيي يجب على بعض ممارسي السياسة العرب واعضاء البروباجندا العربية ان «يكبروا شوية» ويكفوا عن المراهقة السياسية، لأن محددات العلاقات الدولية تغيرت عالميا ولم يعد اللعب تحت الطاولة مقبولاً في حالة الحرب على الارهاب ومتطلباتها العلنية.

وحتى لا يكون المقال تقريظاً وحسب اقترح ان يكون هناك تنسيق فعلي بين الدول العربية، ليس على مستوى القادة وانما على مستوى السكرتير الاول في الخارجيات العربية، مجموعة الشباب العرب الذين يكتبون الـ Concept paper ورقة العمل لرؤسائهم، يلتقون لمناقشة افكارهم لمعرفة اذا كان هناك توافق أم لا.. ومما لاحظته من بعض هؤلاء هو مساحات من الجهل والغرور معا كافية لادخال العالم العربي في نفق اكثر ظلاما من النفق الذي مشينا فيه في الخمسين عاما الماضية.

عدد: 9141