أحاديث مقهى كويتي

TT

قبل أيام ضمني مجلس في الكويت مع بعض صحفييها، وكان لا بد مما ليس منه بد، الحديث عن التجربة الديموقراطية. وبما أن المجلس الذي شهد هذه النقاشات كان مقهى شعبيا، فقد اتسمت الأحاديث بقدر عالٍ من المباشرة والتبسط و...المرارة.

قال لي احدهم « يامعوّد شنو ديمقراطية شنو انتخاب؟ خل عنك السوالف بس» ونظر الآخر مؤيدا لما قاله زميله: هل تصدق أن نائبا مخضرما دخل أكثر من دورة تشريعية، وهو من الإخوان المسلمين، يسقط هذه السنة لحساب مرشح خدمات بسيط وفقير الوعي؟ قلت: ليست المشكلة في التصديق ولكن في الفهم; لماذا تغلب نواب الخدمات؟ أجاب الحضور «لقد ملّ الناس من هذه اللعبة، فماذا استفيد إن انتخبتُ إنسانا مؤدلجا سواء بالإسلاموية او العلمانية، إذا كان نائب الخدمات المجرد من أي وعي سياسي متقدم، ينفع مرشحيه وناخبي دائرته بشكل أفضل و(يمشّي) أمورهم ومعاملاتهم؟».

ولكن أليست هناك نظم متقدمة وآلية لتسيير معاملات الناس دون الحاجة إلى وجود احد (يمشي) الأمور؟ هكذا تساءلت مستغربا. فأجابني الصحفي اليائس «ربما يكون كلامك صحيحا، ونحن بالفعل نستطيع أن نتدبر أمورنا ومعاملاتنا بشكل طبيعي. ولكن كيف سأصنع إذا رأيت ُمنتخبَ النائبَ الفلاني ينجز معاملته بمجرد الدخول على النائب و(فزعته) معه، وأنا أسير في الدورة الطبيعية الأقل سرعة من دورة (الفزعة)».

ثم تحدث شخص من طرف المقهى «ماكو ديموقراطية عدل، وماكو نواب صح» وأدرك شخص آخر اكبر سنا، الدهشة التي أصابتني، فقال «ربما يكون في حديثنا شحنة عالية من التشاؤم، وربما ستجلس مع أناس آخرين هنا ينظرون إلى الأمور بطريقة متفائلة، ولكن صدقني إن كلامنا هذا ليس ضجرا من الحالة الديمقراطية بل هو خوف عليها من التفريغ الداخلي. ولو شعرنا نحن الشباب وكذلك القوامين على حماية مؤسسات المجتمع المدني بوجود خطر حقيقي على الحياة الديموقراطية لدافعنا بكل بسالة عنها «غادرتُ المقهى بعد هذا الحديث وأخذت أتأمل وأسترجع ما دار فيه في تلك الليلة الشتائية الماطرة في المقهى الشعبي في (صوب الشيوخ).

نعم إن الديموقراطية ليست إلا آلية ووعاء نحن من يشحنه بالمضمون المعّبر عن موقفنا الحضاري، هي ليست عصا سحرية تحل مشكلاتنا. وتجعلنا متحضرين. إن الحضارة حالة ذهنية قبل أن تكون أشكالا حديثة وأطلية براقة، تعطي الانطباع بوجود مجتمع ديموقراطي ولكن كثيرا ما يكون هذا الانطباع سرابا وبرقا ُخلّبا.

ومع أن المسيرة الديموقراطية في الكويت عريقة وقديمة ولم تكن نقطة بدايتها في دستور 1962 بل ابعد من ذلك، إذ أن دستور 62 لم يكن إلا محصلة لتكوين اجتماعي وسياسي وتطور تاريخي سابق ومطالبات تمتد جذورها إلى بدايات تشكل الكويت عندما تمت تولية صباح الأول الحكم وعبّرت عن نفسها بصيغة «الحكم المشترك» إلى سنة 1896 كما يذكر الدكتور غانم النجار (ولادة دستور الكويت لأحمد علي ديين) وأيضا محطات تاريخية مهمة سابقة مثل المذكرة الشعبية التي رفعها عدد من رجالات الكويت، وكثير منهم من التجار، في أعقاب وفاة الشيخ سالم المبارك وقيام مجلس الشورى سنة1921 وحركة مجلس الأمة التشريعي في 1938 و1939.

رغم هذا العمق التاريخي للتجربة الكويتية، وهذا الرصيد الحي من الممارسة الديموقراطية وهذا الثمن الذي دفعه الكويتيون من اجل الحفاظ على الديموقراطية، ورغم العافية والحيوية التي كان يتمتع بها المجتمع المدني الكويتي. لكن ذلك كله لم ينتقل بالكويت من القبيلة إلى الدولة ومن العقيدة إلى الوطنية بشكل حاسم، فما زالت هذه المعايير تستبد بمساحة كبيرة من العقل الكويتي، وتطفوا إلى السطح مع لحظات التأزم والانكسار، فتنقشع القشرة الخارجية وتتكشف عن مكونات أولية للفرد، مكونات ما قبل الدولة: الطائفة والقبيلة.

إذن، ومع أهمية التجربة الكويتية، وريادتها الخليجية، إلا أن المعركة الحقيقية لم ُتخض بعد في ميدانها الحقيقي، ميدان الأفكار والعقول، قبل الصناديق والقبب البرلمانية.

ليس معنى الكلام السباق الوقوف أمام أشواق (بعض) السعوديين المشروعة للديموقراطية أو (الشورى) كما يفضل البعض تسميتها، لكنه يعاني المقاربة من زاوية أخرى.

رغم أن الحكومة السعودية اتخذت قرارا بإجراء انتخابات بلدية جزئية بعد سنة، إلا أن الأزمة في تقديري أعمق من ذلك وأصعب، وهي أزمة امة شاملة قبل أي شيء آخر. وهنا يجب ألا نخادع الذات كثيرا ويجب أن نكون صرحاء معها.

فحينما يطالب الإصلاحيون السعوديون بتعديل وضع المرأة ومحاربة الطائفية، مثلا، فهل من يقف حجر عثرة ضد التقدم على هذين الصعيدين، هو الدولة أم المجتمع ؟! الدولة مسؤولة، بلا شك، والسياسي مسؤول أيضا بسبب الاحجام عن اتخاذ القرار الاصلاحي، كما يقول الدكتور محمد الرميحي مؤكدا وجود الدراسات والملفات الإصلاحية الجاهزة لدى جميع الحكام العرب، ولكن المشكلة تكمن في اتخاذ القرار. غير أن هذا التعليل ليس بكافٍ، وان لم يكن خاطئا.

لماذا لا يوجد لدينا غطاء فكري صلب يحمي مفهوم الديموقراطية، لماذا يتطاير الريش الديموقراطي مع أول لفحة هواء طائفي أو فرز فكري ؟! هذا هو السؤال الجوهري.

وما من بأس في أن نأخذ وقتنا الكافي حتى نوجد حياة ديموقراطية حقيقية، تضرب جذورها في العقول والقلوب قبل أن توجد في البنايات البرلمانية الفخمة، والملفات الرسمية. وربما سيكون لذلك ثمن وضريبة، وربما أيضا سيتسبب هذا بجدل فكري ساخن، ولكن لا مفر من هذا الطريق فـ: من يخطب الحسناء لم ُيغلِه المهرُ.

وبالعودة إلى الكويت، فقد كان رواد الحداثة فيها هم الواضعون الأوائل لمداميك التقدم والتنور في المجتمع الكويتي، وكانت حقبتهم ضرورية تمهيدا لاستقبال الحياة الحديثة. وهذا سر من أسرار المسألة!

يذكر مؤرخ الكويت الكبير الشيخ عبد العزيز الرشيد كيف أن رجال الدين والتربية وتجار الكويت كانوا من أنصار النهضة الحديثة والتنوير الديني ورموزه مثل: جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده ورشيد رضا والكواكبي. وكان أمثال الشيخ يوسف بن عيسى القناعي وياسين الطباطبائي وفرحان الخالد وخالد العدساني، بالإضافة طبعا للشيخ الرشيد، من ابرز مناصري التحديث وكانت أول مدرسة بدأ فيها تعلم العلوم الحديثة بعد مرحلة الكتاتيب البدائية، مدرسة المباركية سنة 1911 وقد تضمن منهجها تعليم اللغة الانجليزية والجغرافيا، الأمر الذي أثار سخط الاتجاه الديني المتشدد المتمثل في الشيخ عبد العزيز العلجي وغيره ممن اعتبروا هذا بدعة وخروجا عن نهج السلف والجادة القويمة.

وقد أدى ذلك بالشيخ يوسف القناعي الى الابتعاد وافتتاح مدرسة أخرى بسبب ضغوط المتشددين. وكانت منابر ومساجد الكويت في مطالع القرن المنصرم تحرض على التنويريين والاصلاحيين.

واستمرت هذه المقاومة المتشددة لمشايخ التنوير وحينما بدأ تداول المجلات العربية الفكرية حينها شن المتشددون حملة، واعتبروا أن قراءة المجلات والجرائد بدعة، وتم تكفير إحدى العائلات الكويتية لأنها اشتركت في مجلة عراقية، وهي عائلة الخالد. وحينما أسس الشيخ المستنير عبد العزيز الرشيد مجلة «الكويت» كانت مسرحا للسجال بين تيار التنوير الديني والتيار المتشدد، ومن المسائل التي خاض فيها الرشيد سجالا معهم مسألة كروية الأرض!

ويذكر الرشيد انه حينما ُدعي المصلحُ الديني الشيخ رشيد رضا لزيارة الكويت ثارت ثائرة المتشددين وأفتوا بقتل الشيخ رضا كما أفتوا بهدر دم الشيخ يوسف القناعي والشاعر صقر الشبيب والشيخ عبد العزيز الرشيد أيضا! (د. فلاح المديرس: جماعة الاخوان المسلمين في الكويت ص7)

حينما تأملتُ في ماضي الكويت وتأملت في حاضرها أدركت فعلا كم نحن أشقاء وتوائم...

وبينما أنا احمل حقيبتي وأقف أمام ضابط الجوازات استعدادا للعودة، قال لي صديقي (مجنون الصحافة الكويتية) عبد الله العتيبي وهو يودعني: اظهر للضابط بطاقتك المدنية ولا تظهر له الجواز، فلما فعلتُ ما قال عبد الله ابتسم الضابط وقال لي: فقط الخليجيون هم من يتنقل بالبطاقة المدنية، أما أنت فاعطني جواز السفر... أيها السعودي!

[email protected]