من الانحياز إلى التطابق

TT

كثيرون كانوا يتوقعون ـ وأنا من بينهم ـ انه عندما يصل قانون محاسبة سوريا إلى البيت الأبيض ويوضع على مكتب جورج بوش، سوف ينادي على المز كوندوليسا رايس ويسلمها الملف قائلا: «كوندي علقي هذا الملف في المحفوظات إلى أن نرى إلى ماذا ستؤول الأمور في العراق. من المستحيل أن نحمل قنبلتين في يد واحدة. وليس الوقت مناسبا إطلاقا لاغضاب السوريين الآن. ضعيه في الدرج. وأغلقي بالمفتاح، وضعي المفتاح في درج آخر لا يصل إليه دونالد رامسفلد، ولا وولفوتز».

الذين اعتقدوا ذلك كانوا على خطأ مثل الذي ابتهجوا يوم فاز بوش على آل غور في صناديق فلوريدا ـ وأنا منهم ـ ويمثل هذا الفريق من الناس والدول والأمم، وبينها فرنسا وروسيا وكندا والمكسيك والبرازيل ـ فئة لم تدرك بعد مدى عمق التغيير الذي حدث في واشنطن. ويمكن تلخيص هذا التغيير، ولو بشيء من العجلة والأسلوب العربي في إصدار الأحكام وصرف النقاش، في جملة واحدة، وهي أن أميركا انتقلت من مرحلة الانحياز إلى إسرائيل إلى مرحلة التطابق، في كل شيء، وفي كل مكان، من جزر المالديف إلى أهوار العراق. ومن السذاجة أن نظل نحلل وندرس الخطوات الأميركية بالمقارنة مع دور ايزنهاور في السويس أو دور كارتر في كامب ديفيد أو حتى دور كلنتون في المكان نفسه. هناك أميركا ما قبل جورج دبليو بوش وأميركا ما بعد جورج دبليو بوش، وما عدا ذلك استمرار في خداع النفس وقراءة في كتب بالية وبحث عن الظهيرة في سالف العصر وعز الغياب.

منذ العام 1988 وأميركا تضع سوريا على لائحة الدول الداعمة للإرهاب. وقد دخلت سوريا في الحرب ضد العراق العام 1991 وظلت على اللائحة، وقام وزير خارجية أميركا وارن كريستوفر بزيارة دمشق 26 مرة وظلت سوريا على اللائحة. ومع جورج بوش رفعت درجة الخطورة السورية من البرتقالي إلى الأحمر وتركت الإدارة الأميركية إلى الكونغرس يأخذ مداه في تأليب نفسه وتأليب الرأي العام، وعندما تقترع الأكثرية الساحقة من الكونغرس على «محاسبة سوريا» لا يعود في إمكان جورج بوش أن يطلب من كوندي حفظ «الملف». هذا ملف فتح عن سابق تصور وتصميم. وأبعدوا النظر قليلا تروا أن دول أفريقيا الشرقية حركت في وجه مصر موضوع اتفاقية النيل. وياما أحلى حلايب كقضية قومية كبرى يرفعها السودان الرابض على مليون ميل. ما أحلى أيام حلايب إذا كان الأشقاء الأفارقة سوف يفتحون ملف النيل.

ومعروف أن دول أفريقيا الشرقية ليست على علاقة حسنة مع أميركا بل على علاقة فائقة الحسن، وكذلك مع إسرائيل. وعفوا على هذه الصراحة لكن للضرورة أحكاما واقتضاءات، وأيها السادة نحن مقبلون على أيام صعبة. عفوا، عفوا، أيام شديدة الصعوبة. وفي الأفق أزمات طاحنة، تعالوا نديرها بشكل جيد، وبأقل حد ممكن من الاضرار، وانسوا رجاء المقاييس والمعايير السابقة، انسوا ايزنهاور، وانسوا مونرو وولسون، ولا تبالغوا في الاعتماد على الحظ. واللغة الإنكليزية خالية من «لعل وعسى»؟

إنها لغة مباشرة وفاضحة. وهي لا تترك مجالا للقراءة بين السطور لأن السطور مكتوبة من أجل أن نقرأها. لقد انتقل الأمر من مرحلة الانحياز إلى مرحلة التطابق.