صدام الرجل الأجوف

TT

وهكذا انتهى صدام حسين، ليس بالهدير ولكن بالنحيب. بدا الطاغية العراقي السابق الذي أصبح أسيرا الآن، وكأنه شحاذ تلقاه في الطريق، تتجاهل شطحاته ولكن خطرفاته تذكرك بأنه كان ذات يوم رجلا مهندما يرتدي بدلة وربطة عنق. ورغم ذلك، وربما بفعل هذه النهاية المشينة، سيفيض العالم العربي بنظريات المؤامرة. سيقول البعض انه كان محتجزا لدى الولايات المتحدة منذ البداية، وانه انتشل من تلك الحفرة في اللحظة المناسبة. وربما يصر هؤلاء على أن تلك القنابل التي ألقيت على بغداد في أبريل والتي استهدفت صدام وأبناءه، والتي أطلق عليها حينها «الفرصة المواتية»، قد حققت هدفها بالقبض على الطاغية العراقي.

وسنسمع نظريات كثيرة حول الاسباب التي حدت بالحاوي الأميركي الى أن يخرج هذه الأرنب من كمه الآن وليس قبل ثمانية أشهر عندما أطلق قنابله تلك، وأن الهدف من ذلك هو صرف النظر عن الوضع المتردي في العراق، كما أن آخرين سيقولون ان الهدف هو فوز بوش بالانتخابات القادمة.

أتوقع نظريات المؤامرة هذه، فهي النباتات الطفيلية التي تنبت في الفجوات بين وسائل إعلام مخنوقة ومكممة الأفواه ودولة دكتاتورية. ومع أنني أشعر بأن نظريات المؤامرة تثير فيّ غضبا غير عادي، إلا أنني أتفهم منطقها الملتوي، فعندما يمطروننا بوابل من الأكاذيب التي يمسك بعضها برقاب بعض، لا تكون هناك حقيقة مطلقة أبدا، ولكنني، كعربية، أتمنى أن تقود صور صدام حسين إلى نوع مختلف من الحوار، أي إلى حوار ينطوي على شيء من الإجابة على بعض الاسئلة التي سمعتها تتردد في كل أنحاء العالم العربي خلال الشهور الماضية.

«ماذا عن أؤلئك القادة الذين كانوا يحدثوننا عن منازلة أميركا وإسرائيل؟ لماذا يستسلمون بهذه السهولة؟».

ودعوني أوضح منذ البداية أنني وقفت ضد الحرب في العراق. فكل المقولات التي طرحتها الإدارة الأميركية لتبرير حربها لم تقنعني. ومع ذلك فإنني سعيدة بأن ارى صدام حسين وهو يتدهور إلى وضعية المجرم الذي كانه خلال عدة عقود. وقد تجاهل العالم العربي خلال هذه العقود كل ما مثله نظامه من تعطش للدماء. وسيقول البعض انه طاغية ولكنه وقف في وجه أميركا. ليس ثمة مكان لـ «لكن» هذه المرة. واية وقفة ضد أميركا يمكن أن تجعل الناس يتجاهلون القبور الجماعية التي أصبحت بيوتا لمئات الآلاف من ضحايا صدام؟ وعلى العرب أن يجيبوا على هذا السؤال:

«لماذا وجد صدام حاليا تحت الأرض وليس فوقها؟ وقد مات ابناه عدي وقصي، المتعطشان مثله للدماء، في أتون من اللهب في يوليو الماضي. لماذا أنتشل صدام من حفرة تحت الأرض كما ينتشل الفأر؟ لماذا لم يقاتل الجيوش التي احتلت بلاده حتى الموت؟

معروف عن صدام أنه كان يأمر بقطع آذان ومناخير الهاربين من جيشه من الجنود. فماذا نسميه هو إن لم نسمه هاربا؟

وبحجة الوقوف ضد إسرائيل والولايات المتحدة، تمكنت الأنظمة العربية خلال خمسين سنة أن تتنكر لمسؤولياتها تجاه شعوبها. وقد أدت جميعها فروض الولاء لقومية عربية لا يتفقون فيها إلا على قمع شعوبهم في الوقت الذي يطلقون شعارات فارغة في إدانة الولايات المتحدة وإسرائيل. فماذا قدم هؤلاء القادة لشعوبهم غير هذه العنتريات الخطابية. ماذا فعلوا من أجل الشعب الفلسطيني؟

كل ما تحقق هو تجاهل القضايا الاساسية مثل قضايا التنمية والتعليم وحقوق النساء والتطور الاقتصادي، التي نحرت كلها على مذبح معاداة الولايات المتحدة وإسرائيل. كتبت مرة إلى والدي، الذي عاش أثناء الموجة العاتية للقومية العربية على ايام مؤسسها جمال عبد الناصر، وسألته لماذا لم يفعل العرب أي شيء عملي، بعد سنوات من الخطب المشتعلة ضد إسرائيل؟ وكانت أجابة والدي هي:

«القومية العربية كانت كذبة كبرى استغلت لصرف انتباه الناس. كانت كالدواء المخدر الذي أدمنه الشعب، بعد أن أجبرته على تناوله وسائل الإعلام الرسمية في ذلك الوقت. كانت عواطف الناس مشتعلة بعد أن ضللتهم وسائل الإعلام وجعلتهم ينسون المطالبة بحقوقهم الأساسية».

لاحظوا أن جدي اعتقل وسجن عندما كان شابا لأنه شارك في مظاهرات ضد الاحتلال البريطاني في بداية القرن الماضي. فهل حارب هؤلاء لتحرير بلادهم حتى يتحول أبناؤهم إلى أسرى شعارات خاوية وخروقات فادحة لحقوق الإنسان؟

ومع أن العرب كانوا محقين دائما في الهجوم على الولايات المتحدة لأنها أيدت هؤلاء الطغاة، اسرى الخطب الجوفاء، ومحقين كذلك في إدانة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، إلا أن الوقت قد حان لمحاسبة ساستهم على فشلهم التاريخي، دون «ولكنهم كانوا يقفون ضد أميركا».

فعندما تكتفي هذه الشعوب فقط بإدانة الولايات المتحدة وإسرائيل، فإنها تعترف بصورة غير مباشرة بأن العرب لا يستحقون أن تنطبق عليهم مقاييس العدالة العالمية التي تنطبق على الآخرين.

* كاتبة مصرية تعيش بنيويورك (خاص بـ«الشرق الأوسط»)