سيناريو اللحظات الأخيرة.. والبيان الذي لن يذاع

TT

بعد اجتياح القوات الأجنبية أرض العراق طولا وعرضا، وصيرورة الحرب أمرا وقعا لا محالة، وخلال الأيام الأولى وقبيل إسقاط تمثال صدام حسين بتلك الصورة، نام كثير من العراقيين وبعض العرب، وأصبحوا على قرع هاجس واحد يجلجل أسماعهم، ويحمل ألف دلالة، ويثير أسئلة مصيرية شتى ويوجز تاريخ ما يقرب من نصف قرن في هنيهات معدودات.. الخبر المجلجل هو الإعلان عن انتحار صدام حسين.

في بيان بخط يده، وفيلم فيديو بصوته وصورته يظهره متوجها إلى الله، مسبلا يديه للصلاة، بثوب أبيض كالكفن، يعلن فيه للعراقيين وللأمة العربية، وللعالم، أنه آثر الموت على الاستسلام، وفضل الصمود على الحرب، وأن مثواه في التراب العراقي لأحب إليه من مرقد في جنة الغرباء، وأنه بيده، لا بيد زيد أو عمرو اختار نهايته قبل أن يرى الهزيمة بأم عينيه تحيق بالعراق وجيش العراق والدمار يلحق ببنيانه وبنيه، وأنه سيواجه الموت ببسالة قبل أن يرى العراق محتلا، والعراقيين منكسة رؤوسهم، يستجدون رغيفا أو جرعة ماء.

يتضمن البيان فقرات ندم على كل المخلصين الذين محضوه النصيحة وأجرى في رقابهم السيف، والذين ناصبوه العداء إخلاصا لمبدأ أو إيمانا بعقيدة، أو عشقا لوطن، فذوبهم في أحواض الأكاسيد، أو أطلق كلابا جائعة ومسعورة تنهشهم وهم أحياء يلوبون. واسفا على النخب من المثقفين والمتعلمين الذين غادروا الوطن مرغمين وملء عيونهم دمع المحبين وفي صدورهم غصة من يفارق صفو الحياة.

مقتطفات من بيان لن يذاع

أيها الشعب العراقي النبيل.. يا أهلي وعشيرتي

يا أبناء الأمة العربية النجباء

يا عشاق أوطانهم وشعوبهم في أرجاء المعمورة

بعد ساعة سترونني مسجى أمامكم في كفني، مبسوطة يداي وفارغة من كل ذهب وفضة وزخرف، مخلوعة عني كل رتبي ونياشيني وأنواط الشجاعة التي منحتها لنفسي أو منحها لي المزيفون، متنازلا عن كل أسمائي، مجردا من السطوة المطلقة والسلطات التي بلا حدود، من الخيلاء والتكبر والغرور منزوعة عني كل شهاداتي العلمية.. ليس لي الآن إلا كبريائي وعفوكم عني وحكم محكمة التاريخ.

لقد حاولت أن أكون بطلا حقيقيا وأخفقت، حاولت أن أجمع كلمة الأمة وأخفقت، باشرت الوحدة القسرية وأخفقت، أردت أن أحقق الرفاهية للشعب وأخفقت، وكنت من حيث لا أدري أستدرج من موقف فاشل إلى موقف خائب، ثم تأخذني العزة بالإثم، فأمضي بالشوط حتى نهايته اضطرارا لا رضى، وكان هناك دائما من يدفعني ويشجعني ويحميني!

لكنني أعترف أمامكم الآن، أنني خدعت من حيث لا أدري، وكنت مغفلا وساذجا، إذ تركت الذين سأسميهم بأسمائهم ـ أشخاصا ومؤسسات ودولا ـ يستدرجونني ويستغلون مكامن ضعفي ويشبعون عقدة النقص المتأصلة لدي.

إن للحكام العرب نصيبا ودرسا من هذا البيان وعبرة. الروية التي فقدتها، والحلم والصبر اللذان ما مارستهما قط، والاستهانة بكل مشورة حكيمة، وإبعاد كل مستشار حذق وذي دراية، وتمكين الجهال من الحكم، وإطلاق يد ذوي العاهات النفسية وأنصاف المثقفين وأرباع المتعلمين والأقارب وصبيان العائلة، فيحكمون برقاب الناس، وبأرزاقهم، ومصائرهم والتمادي في الجشع والطمع الذي غلبني وغلبهم وإغماض العيون واصطناع الصمم عما جرى من عبث وظلم وبطش وتنكيل وتجويع وحرمان وتقنين أرزاق وتقييد حرية واستلاب حقوق.

من أجل ماذا؟

من أجل كرسي أردته راسخا وها هو أخف وأتفه من قشة. لقد رفضت المبادرة بالمناورة، رفضي الخنوع والخضوع والذل فرفضت القرار الجبان، والآن أغادركم عزيزا. وقد ثقلت موازيني بالأخطاء والخطايا، صفر اليدين أغادركم، ليس لي غير كفني، وكأني ما ملكت يوما ثروة قارون وتحكمت برقاب شعب.

حاسرا، إلا من إيماني الذي جاء متأخرا، بأنكم أهل للحياة المرفهة والعيش الكريم.

فليظل الوطن أمانة في أعناقكم بعد أن فرطت فيه وفيكم، وخنت الأمانة إذ تركتكم والبلد نهبا للعواصف والريح.

لقد حفرت البارحة قبري بيدي، وسيواريني تابعي الثرى ليلا، فلا يهتدي إلى مكاني أحد من الأعداء وهم كثر أو الأصدقاء وما من صديق..

وإني لأتمثل الآن أم عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس تخاطب ابنها: ابك مثل النساء ملكا مضاعا... لم تحافظ عليه مثل الرجال.

لقد قيل عني إنني جئت بقطار أميركي، لكنني لن أرتضي الرحيل بطائرة أميركية. ها قد اخترت خاتمتي، رصاصة واحدة تكفي، أموت ويحيا الشعب.. أموت ليحيا الوطن.

لكن عجلة الحرب دارت ثم توقفت، وتسرب الزمن كما حفنة رمل بين سبابة وإبهام، والهاجس المدوخ القديم الذي راود البعض سكن واستكن والانتظار ذهب مع الريح.

فما انتحر السيد الرئيس، ولا اعتذر، وما كتب وصية ولا سجل خطبة أخيرة ولا أذاع بيانه المنتظر، إنما تبخر كضباب وتسرب كما دخان سيجار.

فيا ويل المخدوعين الذين حلموا بصدام حسين رمزا، قديسا، محررا، قائدا فذا، بطلا قوميا، أسطورة..

يا ويلهم يرونه مقبوضا عليه، أشعث اللحية، متسخ الشعر، زائغ العينين، مستكينا بين يدي جندي أميركي، يدير رأسه يمنة ويسرة، فيمتثل صاغرا، ويجرجره آخر دفعا ليخرجه من جحر مكمنه المزري الذي اختبأ به هلعا، مرتديا اسمال شحاذ، فيمثل صاغرا... يا ويل الذين آمنوا به عن قناعة ودافعوا عن مواقفه بقناعة، لا طمعا ولا خوفا ولا زلفى، يرونه منكس الرأس، خافض الجبين مرتعش الأوصال، دامع العينين، مرتجف الشارب، مسفوح ماء الوجه يستعطف سجانه أن يترفق به قليلا، يمنحه فرصة للعيش أو يعيره فرسا للهرب!!

لا..

ما هذه مزايا فارس..

إنها صفات لص خارج على القانون.

لماذا لم تنتحر يا سيادة الرئيس..

يا سيادة الرئيس الذي كان.

* كاتبة عراقية