ندوة الجنادرية: أسئلة سعودية وأجوبة سعودية

TT

نستطيع القول إن الندوة الفكرية في مهرجان الجنادرية لهذا العام «الجنادرية 19»، كانت سؤالا سعوديا وجوابا سعوديا. السؤال اختاره القيمون على الندوة وهو «إصلاح البيت العربي»، والجواب قدمه باحثون سعوديون كانوا الأبرز في التقديم والعرض والاستنتاج، وبهذا تكون الجنادرية قد خلت هذا العام من المشاركات العربية الكثيفة التي كانت في ندوات سابقة هي الأساس في التقديم والعرض والاستنتاج. ولا يعني هذا أن الجنادرية لم تدع محاضرين عربا، فهي فعلت ودعتهم، ولا يعني هذا أن المدعوين العرب لم يخطط لكي يكون لهم دور بارز في المشاركة الفكرية، فقد اشتمل برنامج الجنادرية على أبحاث يقدمها باحثون من سوريا في الندوة الاقتصادية «د. حسين مرهج العماش»، وباحثون من فلسطين في الندوة الإعلامية والثقافية «د. أحمد صدقي الدجاني»، وباحثون من لبنان «د. غسان سلامة»، ولكن هؤلاء الباحثين تغيبوا وإن حضرت أوراقهم، لأسباب عملية أو لأسباب صحية، باستثناء الحضور المميز والمكثف الذي كان لعدنان عمران وزير الإعلام السوري الأسبق. وهكذا انفرد الباحثون السعوديون في تقديم رؤاهم، وكانت هذه بحق فرصة متميزة لكي نسمع الصوت السعودي واضحا صافيا.

والصوت السعودي لا يأتي هكذا نظريا أو مجردا، إنه صدى لما يحدث خارج قاعة الندوة، وفي خارجها شاهدنا لأول مرة حواجز الشرطة وهي تلقي نظرة على السيارات المارة، وذكرتنا هذه الحواجز بالعمليات الإرهابية التي تمت، وبسؤال الإرهاب الذي يلقي بظله على المجتمع السعودي، وهو ظل كان حاضرا أيضا في بعض الأبحاث السعودية التي قدمت إلى الندوة.

نشير إلى بعض المقاربات بإيجاز:

خاطب سعود الفيصل ندوة الجنادرية بكلمة مدروسة عميقة، دعا فيها إلى مسألتين مترابطتين: الإصلاح الذاتي، والمشاركة السياسية، وأشار هنا إلى أن غياب المشاركة السياسية ليس عرضا قائما بذاته، بقدر ما هو جزء من كل أكبر وأعمق، ذلك أن المكون السياسي ككل، يعاني في عالمنا العربي من ضعف شديد وتخلف واضح. وقال: نلمس هذا الضعف الشديد على مستوى النخب الفكرية والسياسية والثقافية. وركز على أن الدراسات التي تبحث في فقه السياسة في الاسلام لم تحظ بالقدر نفسه من الاهتمام الذي نالته الدراسات الخاصة بالجوانب الأخرى في المنظومة الاسلامية، وخلص إلى الأهمية الحاسمة التي يجب أن نوليها لموضوع تطوير المشاركة السياسية في العالم العربي، ولكنه أشار بعد هذا إلى ثلاثة أوهام: الوهم الأول الداعي إلى تأجيل المشاركة السياسية بحجة مواجهة العدوان الخارجي. والوهم الثاني وجود تناقض بين آليات المشاركة السياسية من جهة وقيم المجتمع العربي والهوية الاسلامية من جهة أخرى. والوهم الثالث إساءة فهم المقصود من المشاركة السياسية، إما بتوسيع مدلولاتها توسيعا يفقدها معناها ومحتواها، أو بتقليص تلك المدلولات تقليصا مخلا.

هل نقول إن هذا النوع من الخطاب جديد على المجتمع السعودي، وبخاصة حين يصدر عن رجل بمستوى سعود الفيصل؟ ربما.

في ندوة المحور الاجتماعي، خاطب الندوة الدكتور علي النملة، متحدثا بالتفصيل عن مشكلة الفقر وكيفية معالجتها. لقد تناول بمعرفة واقتدار النظريات التي تتحدث عن التعريف العلمي للفقر، ثم انتقل إلى الحديث عن أسباب الفقر، ثم إلى الحديث عن ضرورة وضع استراتيجية وطنية لمعالجة الفقر، تتضمن الأهداف المطلوب تحقيقها والبرامج التنفيذية التي يمكن من خلالها تحقيق تلك الأهداف. والنتيجة التي انتهى إليها هي أن خبرات الدول المختلفة أثبتت أن استراتيجيات معالجة الفقر وسياساتها وبرامجها لا يمكن أن تنفصل عن سياسات التنمية وخططها، معتبرا أن هذا الهدف الكبير يتطلب تعبئة كل الأجهزة والمؤسسات الوطنية.

هل يشكل حديث الفقر صدمة للقارئ العربي حين يتعلق الأمر بالسعودية؟ ربما. ولكن المشكلة حقيقية وتحتاج فعليا إلى معالجة، وكان الأمير عبد الله ولي العهد أول من أطلق صفارة الإنذار حول هذا الموضوع الكبير والخطير، حين ذهب بنفسه إلى الأحياء الفقيرة وتفقدها، ودعا بعد ذلك إلى رسم استراتيجية وطنية لمعالجة مشكلة الفقر. وهاهم البحاثة السعوديون يقولون عبر ندوة الجنادرية إن الفقر لا يعالج بالمساعدات أو بالإحسان، إنما بخطط التنمية الشاملة.

وجنبا إلى جنب مع مشكلة الفقر، جرى حديث صريح عن مشكلة المرأة، تناوله الدكتور سعيد حارب في حديثه عن المرأة بين الشريعة والواقع. قال: إن الحديث عن المرأة ما زال في مجتمعاتنا من مسائل «التردد» أو «التوقف»، إذ يتردد كثير من الباحثين والمهتمين بالشأن الاجتماعي في طرح قضايا المرأة خوفا من قوى معارضة ترى الحديث عن المرأة مدخلا لكثير من المشكلات المجتمعية، ولذا فهي تفضل إغلاق هذا الباب. ودعا إلى اجتهاد معاصر في هذه المسألة، ذلك أن فقهاءنا السابقين اجتهدوا لعصرهم، ونحن اليوم مدعوون مثلهم إلى الاجتهاد لمعالجة كافة القضايا التي تواجهنا.

ألا يشكل هذا الحديث عن المرأة نظرة جادة وجديدة؟

وفي المحور الاقتصادي لإصلاح البيت العربي، تحدث الأخصائيون السعوديون بلغة علمية خالصة، وتطرقوا إلى الوضع العربي ومشكلاته أكثر مما تطرقوا إلى الوضع السعودي ومشكلاته، واثبتوا في هذا الشأن كفاية ودراية. قدم الدكتور ماجد المنيف ورقة شاملة متميزة امتلأت بالوقائع والحقائق دون أي نوع من الشعارات، فتحدث من جملة ما تحدث، عن عدم جدية بعض الأنظمة العربية في تنفيذ ما اتفق عليه، وتحدث عن القيود البيروقراطية والتنظيمية التي تعيق الوصول إلى اتفاق وتنفيذه. وقال: لا تظهر في الأفق إمكانية أن تتخلى الدول العربية عن جانب من السيادة، والقبول بمبدأ التصويت المرجح، عوضا عن الإجماع، للوصول إلى اتفاق لمنطقة تجارة حرة عربية، وأكد أن توفر الإرادة السياسية هو وحده الذي يرتقي بالعمل الاقتصادي، داعيا إلى توفير هذه الإرادة.

لقد هيمنت هذه الأصوات السعودية على أجواء ندوة الجنادرية، وقدمت للمشاركين صورة حية عن شريحة جديدة من المثقفين السعوديين بدأت تطرق باب المجتمع بقوة، حاملة معها رؤاها الحديثة والمعاصرة، من دون أن تبدو كداعية لتدمير مجتمعها، على غرار ما يفعل بعض المعارضين الذين يرون في الهدم مثلهم الأعلى. وشكل وجود هذه الشريحة في ندوة الجنادرية علامة تقدير من زملائهم العرب، فهم يتخاطبون الآن مع أنداد لهم ولا يخاطبون الفراغ. انهم يتحاورون ولا يلعبون دور «المعلم» الذي تحلو ممارسته لبعض المثقفين العرب الذين يزورون السعودية. ويتحمل المثقفون العرب في هذا الإطار مسؤولية البحث عن هؤلاء المثقفين السعوديين من أجل التحاور معهم بعمق، فهم قادرون على أن يقدموا لهم الجانب الآخر من الصورة، ذلك الجانب الذي يتعلق بمجتمع الخليج والنفط ومشكلاته، وهي كما رأينا مشكلات منشغلة بهموم المشاركة السياسية، والفقر، والمرأة، وليس هموم الرفاه والغنى كما يتصور الكثيرون.

ولقد دعونا دائما إلى ضرورة تطوير ندوات الجنادرية لتكون أوسع وأعمق وأشمل. وتصبح دعوتنا هذه ملحة أكثر بوجود هذا النوع من الباحثين السعوديين الجادين، فتحية لهم.