نادي المنصاعين العرب.. الله غالب!

TT

«الله غالب» هذه احدى التعبيرات الليبية الدارجة ـ إن لم تكن الأشهر ـ وأظنها كذلك في بلدان المغرب العربي. ظل هذا التعبير حاضراً أمامي منذ أن أعلنت ليبيا أنها قررت وبإرادتها الحرة التخلص تماماً من كل أسلحة الدمار الشامل المحظورة دولياً، والتخلص من كل المواد والمعدات والبرامج الخاصة بإنتاج هذه الأسلحة، وقبول الخضوع لمراقبة دولية، والتزام ليبيا بالاتفاقات والمعاهدات الدولية في هذا الشأن.

الاعلان الليبي كان مفاجئاً للجميع عدا الأشخاص المشاركين في الاتفاق عليه، ولم تكن هناك مقدمات واضحة أو خطوات مسبقة تدل على الاعلان الذي تم، أي أنه أيضاً كان مفاجئاً حتى لليبيين أنفسهم في «الجماهيرية».

ردود الفعل العربية الرسمية المعلنة كانت مرحبة بالقرار الليبي، وردود الفعل الاعلامية والمعبرة في جزء منها عن ردود الفعل الرسمية غير المعلنة أبدت مزيجاً من الشماتة، الاستغراب، الاستخفاف، والمفاجأة، البعض قال: «هذا هو القذافي يفاجئنا دائماً بما هو غير متوقع». والآخر قال «لقد قدم التنازل الأكبر بلا ثمن». وعبر صوت آخر ومتكرر «لقد رأى ما حدث لصدام، وظن أن الدور آن عليه، فبادر وتنازل قبل أن ينفذ فيه ما يخشى منه».

والحقيقة أن جزءاً مما سبق هو صحيح، وجزءاً آخر تعبير عن صدمة المفاجأة، فالأكيد أن ما حدث في العراق وما حدث لصدام حسين أخيرا ينبغي أن يضعه كل الحكام أمام أعينهم، ليس خشية من الأميركيين، ولكن خشية من شعوبهم. ولكن الموقف الليبي الأخير وفقاً لما أعلن من مختلف الأطراف، هو وليد تسعة أشهر من المفاوضات، أي أن البداية كانت في الفترة التي يتم فيها التمهيد لغزو العراق، وهذا يعني أن الادراك الليبي بالمخاطر القادمة بدأ قبل سقوط العراق، وقبل سقوط صدام. وقراءة الأحداث وقتها تؤكد على أن ما حدث كان سيحدث بالتأكيد، حتى رغم صراخ الصارخين في محطات التلفزيون العربية.

الاعلان الليبي الأخير ـ رغم واقعيته المريرة ـ إلا أنه اعلان واضح عن هزيمة دون معركة، تنازل مع الحفاظ على الحد الأدنى، وهذا الحد الذي وصف بالأدنى يستطيع الليبيون فقط تحديده.

اعلان الهزيمة من قبل ليبيا ليس بلا ثمن وفقاً للنظرة الليبية ـ وهي نظرة تحمل منطقا ـ فبهذا الاعلان عن الانصياع للقانون الدولي ـ حتى لو كان ظالماً ـ هو تجنيب لليبيا من السقوط في الفخ العراقي. لسان حال الليبيين المقتنعين بما حدث يقول، ماذا يمكن لنا أن نفعل في حال ضرب قدراتنا العسكرية؟ هل يمكن لنا أن نقف أمام هجوم طائرات اسرائيلية مثلاً لو تحركت لتدك تلك المواقع ونحن نعاني من آثار حصار دام 15 عاماً ولا نملك بالتالي امكانية الدفاع عما نملك؟ ماذا كان سيفعل العرب لو حدث هذا؟ هل يملكون القدرة على وقف مثل ذلك الاعتداء لو حدث؟

استمرار ليبيا في برنامج التسلح ـ الذي كان غير معلن ـ يبدو أنه بات مستحيلاً في ظل الظروف الدولية الراهنة، والشكر لأسامة بن لادن وصدام حسين ـ فقد بات الحصار والتدقيق حول تحركات المواد والعلماء المرتبطين بهذه الصناعة محل متابعة ومحاولات إجهاض مستمرة، وتم بالفعل خلال الفترة الماضية ضبط بعض الشحنات المرتبطة بهذه البرامج، وفيما يبدو أيضاً، وفي ظل النشاط الاستخباراتي المكثف وغير المسبوق خلال العامين الأخيرين، فإن استمرار سرية أي برامج تسلح باتت شبه مستحيلة، وهذه الحالة تجعل من استمرار أي برامج تسلح غير متطابقة مع القانون الدولي ـ حتى لو كان ظالماً ـ يبدو مستحيلا، واستهدافها يبدو منطقياً ومتوقعاً. إذا ما طبقنا عناصر هذه المعادلة على ليبيا فإن الوضع يكون كالتالي: دولة تملك برامج تسلح وبرامج نووية من المحتمل تسرب معلومات عنها من خلال أجهزة مخابرات، ويمكن أن تكون قد تعرضت لضغوط نتيجة للحالة الدولية الراهنة مما تسبب في العجز عن امكانية الاستمرار في هذه البرامج، إضافة إلى عدم قدرة الدفاع عنها في حال تعرضها للهجوم. هذه الأمور مجتمعة تؤدي بالضرورة إلى اتخاذ قرار مثل القرار الذي اتخذ. حتى لو بدا الأمر محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو لنقل البحث عن بداية جديدة للعلاقات مع العالم الجديد.

اعلان ليبيا للهزيمة والانصياع للقانون الدولي من طرف واحد هو اعلان عن واقع مرير، ليس معنى هذا أنني مع استمرار برامج التسلح النووي، ولكن الانصياع العربي الكامل من الجميع دون استثناء في ظل وجود استثناء واحد لاسرائيل هو ما أقصده، فالعرب جميعاً منصاعون من قبل، وليبيا هي المنصاع الأخير، فمرحباً بهم في النادي. الواقع المرير الذي نعيشه تفاصيله كثيرة، وملامحه نعيشها جميعاً، والاعتراف بهذا الواقع هي أول خطوة للتطور، والالتزام بالشرعية الدولية هو خطوة عاقلة، البناء التالي عليها هو الطريق الصحيح. مواجهة الواقع الدولي الجديد فرادى هو طريق النهاية لهذه الأمة، والتنسيق وبناء العلاقة بين أطراف «النادي» على أسس مصالح الشعوب ورغباتها وخلق حالة من الارتباط النفعي المتبادل هو الطريق لتحويل هذا «النادي» من نادي «المنصاعين» إلى ناد يشكل رقماً في المعادلة الدولية القادمة.

في ظل الظروف الضاغطة، اجتهدت ليبيا بقرارها الذي يدمرها تدميراً، ومع هذا الاجتهاد فإن السؤال يظل مطروحا على الذين ينتقدون ليبيا ماذا هم مقدمون من بدائل؟ والإجابة ليست بعسيرة.

رد الفعل الذي لم أذكره هو رد الفعل على مستوى قطاع من الناس في الشارع الذين ليسوا مسؤولين ولا اعلاميين، وهو رد فعل ساخط ناقم على الموقف الليبي الأخير، وهو أيضاً موقف مفهوم في ظل التركيبة النفسية العربية التي تعاني من الاحساس بالهزيمة وتبحث عن أي شخص أو طرف يمكن أن يواجه «الغول» ويقول له «عينك حمراء»، وكانوا يظنون أن ليبيا ما زالت تقول ذلك، ولكن أدركت ليبيا أن الغول أقوى من أن يُواجَه، وأن مصادقة الغول ذي العين الحمراء في هذه المرحلة أسلم وأكثر أمنا حتى لا تخرج لافتة النهاية من «حفرة».

[email protected]