بانوراما المشهد السعودي.. الغرب والموجة والقلب الكبير

TT

في الايام الماضية، قرأت تعليقات وآراء لبعض الكتاب الغربيين حول ما يدور في السعودية من تفاعلات وتطورات واسباب هذا التوجه واهمية توقيته، وتناولوا مسألة الحوار الوطني وكيف ان الحكومة السعودية رضخت للضغوط الخارجية ـ حسب رؤيتهم ـ وان الاسرة الحاكمة تعيش قلقا من جراء الاحداث الاخيرة، وانه في ظل هذه الاوضاع فإن السعودية مهددة بانشراخ داخلي يؤدي الى تزعزع الامن والاستقرار مما يؤدي الى تقسيمها وتشرذمها. على ان لغة كهذه تميل ـ بلا شك ـ الى الاثارة والتضخيم، ولا تخلو من عبثية الطرح وسذاجته، الا انها تبقى قراءة من زاوية مختلفة، لكنها لا توافق الحقائق الماثلة كونها لم تستند الى محاولة فهم الجذور الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع السعودي.

والحقيقة ان الصورة البانورامية للمشهد السعودي الراهن تدفع البعض من هؤلاء الكتاب الى الاعتقاد بأن ثمة مأزقا سياسيا تعيشه السعودية، فالبيانات الصادرة عن المثقفين والمطالب الشعبية وحجم المقالات الصحافية الممتلئة بالنقد والمطالب فضلا عن الحراك الاجتماعي في الملتقيات وطرحه لقضايا هامة بصوت مسموع، ناهيك عن انشاء مركز للحوار الوطني يمثل اطياف المجتمع، كل هذه الصور التي لم يعتدها المواطن السعودي، ولم يسمع بها الكاتب الغربي من قبل، ربما اعطت اولئك رؤية خاطئة عن حقيقة هذه الاشياء واسباب حضورها في المشهد السعودي الآني، وهي رؤية غير منطقية لأنها لم تستند الى اساس برهاني يقوم على استخلاص الاحكام سواء بالاستقراء او بالاستدلال، مما يجعلها فقط مجرد قناعات يؤمن بها هذا الكاتب او ذاك بغض النظر عن اتفاقها او اختلافها مع حقائق الامور.

ولذلك اقول ان فهم الجذور وتحليل الاسباب وربط العلة بالمعلول هي الطريقة السليمة للوصول الى النتيجة المنطقية، وهو ما افتقدته تلك الآراء والطروحات الغربية، بدليل انه غاب عن اذهانهم ـ فيما لو ارتهنوا للتحليل المعرفي ـ ان هنالك قضيتين محسومتين لدى السعوديين فيما يتعلق بشأنهم الداخلي، الاولى تطبيق الشريعة الاسلامية، والثانية مشروعية الحكم لأسرة آل سعود، وهذا يعني فيما يعني اتفاق كافة الوان الطيف في المجتمع السعودي على هاتين المسلمتين والتمسك بهما قناعة وايمانا وليس خوفا او ضعفا.

ولعل هذا يفسر مضامين تلك البيانات المتنوعة لشرائح المجتمع السعودي، حيث اكدت على حسم هاتين النقطتين وانها ليست محل طرح او نقاش او جدال، بل طالبت الى جانب ذلك باهمية وضرورة الوحدة الوطنية وترسيخها، وان كانت هناك مطالب بالاصلاح، فهي لا تعني الوقوف ضد النظام او التشكيك في مشروعيته، لذا فالمراقب للشأن يلحظ ان ثمة رغبة مشتركة بين المطالب الشعبية التي ينادي بها الاصلاحيون، وبين مبادرة الحكومة الجادة في تحقيق تلك الاصلاحات، وقد التزمت بتنفيذها وشرعت في خطواتها الاولى. ولعل نقطة الخلاف البسيطة ـ ان وجدت ـ تكمن في الجدول الزمني، فهناك من ينادي بتسريع الوتيرة، والبعض يرى التدرج في تنفيذها، وفي تقديري ان من يقرر او يفصل في هذه المسألة هو ولي الامر، فالصورة الشاملة تتوفر لديه والقرار السياسي الناجح هو الذي يستند الى الشمولية والعقلانية والمصلحة العامة، فالتأثير مرتبط بمصير امة وليس برغبة فردية او مصلحة ذاتية.

اما الصورة المجزأة فهي لدى بعض مثقفينا الذين تأخذهم الحماسة والانفعال والارتجالية ولو كانت بحسن نية، غير ان الصورة ليست مكتملة، وبالتالي فإن الاخذ بها وبعجل قد يؤدي الى عواقب وخيمة، فالمصير جمعي وليس فرديا.

وهنا يكمن الفرق، فالقيادة السياسية ترى شيئا قد لا نراه، وان كانت الرغبة مشتركة في الاصلاح والاستمرار فيه، الا ان القرار السياسي يرتهن الى البراغماتية او هكذا يجب ان يكون، ويبتعد عن الجاهزية والارتجالية وتغليب العاطفة على العقل، ولعل هذا ما يفسر ضرورة دراية السلطة السياسية بما يحدث حولها، وان تكون ناقدة لذاتها، متفاعلة مع ما حولها، ومتوازنة ما بين مصالحها ومطالب شعوبها، مما يجعل النتيجة لهكذا معادلة هي الاستقرار والنمو والاستمرارية.

نعم، السعودية تعيش تحولات داخلية، وتتأثر بالمتغيرات الدولية ولها تجاوزات واخطاء وهفوات، الا ان المراقب المحايد يلمس ان هنالك رغبة جادة من القيادة السياسية في المضي قدما في مشروع الاصلاح، وتتعامل في ذات الوقت بحكمة وبقلب كبير مع بعض الاصوات التي اصابتها هيستريا الحضور والوجود واستغلال المواقف، فدخلت (الموجة) للتكسب الشخصي، ومع ذلك فالقيادة تنزع الى الحلم والنصح لأن المواطن ـ في نظرها ـ يبقى صالحا وقابلا للعودة الى الخط السوي.

واذا كان اولئك الكتاب الغربيون يرون ان المشهد قاتم، فإنه بعد الامعان في تلك الصورة، فإنني اجد انها تميل الى الاشراق والتفاؤل، ورب ضارة نافعة، فالاحداث التي طغت على السطح منذ سنوات وتراكماتها وافرازاتها المتلاحقة ادت الى تكريس الوحدة الوطنية وارتفاع الاصوات من كافة التيارات والتوجهات الى ترسيخها وحماية البناء ممن يحاولون اعاقته او هدمه، وثمة اتفاق انه لا عودة لمرحلة ما قبل عبد العزيز حيث لم تخرج صورة المشهد عن تشرذم وقلاقل وفتن.. وللحديث بقية.

* كاتب سعودي