«فتح» في الأربعين (1) ـ جميع الرفاق يأتون من غزة

TT

لا ادري بماذا كان يحلم ياسر عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، عندما بدأ في سن مبكرة جداً، في كتابة الاسطورة التي سوف يسميها ياسر عرفات، ويدللها بلقب «ابو عمار». لكن الذي نعرفه، هو انه كتب كل فصل منها، بعناية مذهلة وجهد خارق. وقد فعل ذلك على نحو مثير ولا سابق له في الطموحات السياسية المعاصرة، فعاش حياته بين الموت والحياة وعلى حافة النهار والليل، يحمل على ظهره حقيبة من الشوك والاحلام والعلقم اسمها فلسطين، متنقلاً ما بين القاهرة والكويت وعمان وبيروت واثينا وتونس والقاهرة وعُمان وغزة، باحثاً في كل مكان عن غزة التي فيها ولد، لكنه سوف يسمي نفسه، من اجل مقتضيات الاسطورة، «ابن القدس». لكن محمد عبد الرحمن القدوة كان في الحقيقة من غزة. ولم يكن محمد عبد الرحمن القدوة، لاحقاً ياسر عرفات، لاحقاً «الختيار» حتى وهو في عز شبابه، لاحقاً «ابو عمار»، لم يكن الغزاوي الوحيد. جميع الرفاق المؤسسين كانوا في تلك المدينة البائسة التي كانت ذات يوم المدخل البحري الى فلسطين، الى القدس، ومنها الى الشرق. ففيها التقى صلاح خلف «ابو اياد» وخليل الوزير «ابو جهاد» وسليم الزعنون «ابو الاديب» وفتحي بلعاوي. وقد انتقل هو الى القاهرة طفلاً في الرابعة من العمر، لأن عبد الرحمن القدوة، تاجر القماش البسيط، كان يسعى للحصول هناك على مبنى ورثه من اهل امه. وقد مات من دون ذلك. اما ابو اياد فقد ذهب الى مصر طالباً في الازهر، وفي السنة الدراسية الاخيرة اُبعد من القاهرة الى غزة بسبب انتمائه الى حركة الاخوان المسلمين التي ناصبت عبد الناصر العداء وتآمرت لقتله. وكذلك انتمى الى الحركة ابو جهاد. وابو عمار. لكن ابو عمار ترك مسألة انتمائه الى الحركة غامضاً، مثل كل شيء آخر. مثل مكان ولادته. مثل جذوره في غزة. مثل الدماء المصرية التي جرت في العائلة. مثل تأسيس «فتح» في الكويت، حيث سيصبح القائد العام للفدائيين، ونائبه خليل الوزير. ألم يبدأ حياته بالغارات على مواقع الاسرائيليين من غزة؟ أليس هو الرجل الذي سوف يعتقله ضابط في الجيش اللبناني يدعى سامي الخطيب، لانه قام بعملية فدائية من حدود لبنان مهدداً مصير الهدنة؟ يروي اللواء سامي الخطيب انه كان يعرف تمام المعرفة من هو «ابو عمار» عندما اوقفته دورية من الجيش وهو عائد من الحدود. لكن ابو عمار ظل يعطي اسماً آخر لرقيب في قوات «العاصفة». وعندما هدده الخطيب بالاعتقال المطول، قال اخيراً انه ياسر عرفات، قائد «العاصفة».

كانت تلك «عصبة غزة». ابو عمار نفسه كان من المدينة. اما ابو اياد، المولود في يافا، فقد كان لاجئاً فيها. وكذلك ابو جهاد، المولود في الرملة. وكان ذلك كله حوالي منتصف الخمسينات، عندما انضم الى حركة «الفدائيين» ابو يوسف النجار، الذي سوف يستشهد العام 1973 مع كمال ناصر وكمال عدوان، في غارة اسرائيلية ارتدى فيها ايهود باراك ثياب امرأة. كنت اشاهد ابو يوسف النجار كلما ذهبت الى مقهى «اللاروندا» في ساحة البرج اوائل الستينات. وكان يجلس دائماً مع اثنين او ثلاثة حول فنجان من القهوة. وكان يبدو لرواد المقهى وكأنه لبناني من الجبل، اعقد الشعر وعاقد الجبين وكث الشاربين. ولم اعرف ان هذا الرجل هو ابو يوسف النجار، الا عندما استفقت ذات صباح وقمت الى الباب لأحضر «النهار» الموضوعة على العتبة. واذهلتني الصفحة الاولى. فقد كان كمال ناصر من احب الناس اليّ. وكان كل مساء يمرّ علينا في «النهار»، هو وكلوفيس مقصود. لكن تلك الليلة مرّ عليه ايهود باراك. وبعد قتله تُرِك جثة مصلوبة اليدين على الارض. درس للمسيحيين العرب.

الى اللقاء