القومية انتهت .. الدور على الأصولية

TT

هل يقف العالم العربي في أهم مفترق طرق يواجهه منذ سنوات؟ من المحتمل جدا أن يكون الامر كذلك مع بداية هذا العام الجديد، خصوصا بعدما سقط القناع أخيرا عن تيارين حاولا اختطاف العالم العربي لسنوات طويلة، وهما تيار التوجه القومي، وتيار الاسلام السياسي. حقا، إن إلقاء القبض على الدكتاتور العراقي صدام حسين، من جهة، وتحول الموقف الليبي من امتلاك اسلحة الدمار الشامل بمقدار مائة وثمانين درجة لا شك قد كشفا الكثير. قبل ذلك بسنوات عدة غيّب الموت عام 1970الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهو أبو التيار القومي في العالم العربي، وفي سنة 2000 توفي الرئيس السوري حافظ الاسد.

معنى هذا ان الموت غيّب اثنين من أبرز أربعة رموز للتيار القومي، وهزم ثالثا في الحرب ثم وقع في الأسر وهو الآن في السجن، بينما جرى تحول كبير في موقف ليبيا. واذا بدأنا من الأخيرة، نلاحظ ان ليبيا ربطت نفسها أولا بالناصرية، الى ان اعلنت قبل بضع سنوات انها تشعر بالإحباط وخيبة الامل إزاء تشرذم الدول العربية، وانها لهذا السبب بدأت تركز اهتمامها على القارة الافريقية بدلا من العالم العربي. والآن، بعد مرور تسعة شهور على المفاوضات السرية التي بدأت مع الولايات المتحدة وبريطانيا، تأكد استعداد طرابلس للتخلي عن أسلحة الدمار الشامل، بل هي تنصح العرب والمسلمين بانتهاج طريق مماثل.

أما صدام حسين، الذي صور نفسه باعتبار انه آخر آمال العالم العربي، فقد شاهد بنفسه الدمار والسحق الحقيقي الذي حاق بمكانته الاسطورية، إذ دمرت تماثيله غداة الغزو الاميركي للعراق، وأصبح تحت قبضة القوات الاميركية بانتظار محاكمته على الانتهاكات التي حدثت خلال سنوات حكمه.

لقد آن الاوان كي يقول العرب وداعا للأيديولوجية القومية، فقد صادرت الحريات الفردية، واظهرت إهمالا وتجاهلا تامين لحقوق الأقليات، وأوقفت التنمية متعللة بذريعة الوقوف في مواجهة الولايات المتحدة واسرائيل. الواقع ان التيار القومي لم ينجح في ايجاد وطن للفلسطينيين، بل هو لم ينجح في انهاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. ويثبت الواقع ايضا ان بعضا من رموز الايديولوجية القومية، من أمثال صدام حسين، كانوا يلعنون الغرب ويحثون اتباعهم على مقاومته، في الوقت الذين كانوا يدركون فيه جيدا انهم مدينون للولايات المتحدة والدول الاوروبية بالمكانة التي وصلوا اليها. ويعزز هذا ان الرئيس جورج بوش نفسه، اعترف بأن الولايات المتحدة كثيرا ما ايدت أنظمة شمولية في العالم العربي. المؤمل الآن هو ألا تكرر الولايات المتحدة مثل هذا الخطأ.

أما بالنسبة لايديولوجية التطرف الأصولي، أو الاسلام السياسي، فقد كشفت ثلاث هجمات انتحارية جرت في السعودية وتركيا أخيرا، عن استعداد زعامات هذا التوجه وعناصره لممارسة التدمير وقتل الناس وصولا الى تحقيق أغراضهم. ولا بد هنا من ملاحظة ان الغالبية بين عشرات القتلى الذين سقطوا في التفجيرات الانتحارية في كل من تركيا والسعودية في شهر نوفمبر الماضي كانوا مسلمين.

واذ تقوم قوات الأمن في مختلف أنحاء العالم باعتقال المزيد من المتطرفين، فمن المؤكد أن أساليبهم ستصبح أكثر يأسا. وبالنسبة لجيلي من العرب، فان هذا الكشف المزدوج، لم يكن له أن يحل في وقت أبكر. لقد ولدت عام 1967، عام النكسة، وألقى الاسلاميون في ذلك الوقت باللوم على عبد الناصر والأسد والقوميين العرب للتسبب بالهزيمة. ثم قدموا آيديولوجيتهم الخاصة كسبيل وحيد لاسترداد الكرامة.

بيد انه منذ ذلك الحين، ظل تيارا القومية العربية والاسلام السياسي يؤديان رقصة الموت. وكان كل من لا يبتهج بتلك الرقصة يتهم بأنه اما مؤيد للأميركيين، أو بما هو أنكى من ذلك، كالقول بأنه ليس عربيا أو مسلما بما فيه الكفاية. والحق ان الأجيال التي أعقبت النكسة ورثت ارثا ثقيلا. ومعظم سكان العالم العربي اليوم هم في سن دون العشرين. ومن المؤكد أننا لا نريد أن نسلمهم لهذين الاتجاهين: القومي والأصولي.

حقا، لقد حان الوقت لكي نتوقف عن الهروب من اسباب كل أمراضنا الى القاء اللوم على اميركا واسرائيل. يكفينا ايضا كل ما قدمناه من دعم للديكتاتورية بدعوى وقوفها في مواجهة اميركا واسرائيل. ويكفينا ايضا تمسكا بذهنية الضحية، وما مارسناه من السلبية التي لا تبشر الا بالمزيد من المستبدين. السؤال الآن هو: هل نحن قادرون على التعلم من التاريخ؟

إن على رواد الفكر الليبرالي ـ الاصلاحي في العالم العربي أن يتقدموا الى الامام، وان يقدموا البدائل لمنطقتنا المحاصرة. انهم موجودون. والكثير من البلدان العربية تمتلك مجتمعات مدنية تدافع بشجاعة، على الرغم من الاضطهاد، عن حقوق الانسان وعن المزيد من الحريات. ويعتبر عبد المنعم سعيد، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، صوتا بارزا في الاتجاه الليبرالي الجديد، وقال لي في حديث هاتفي ان الليبرالية في العالم العربي "قد استفادت من أخطاء الأنظمة الأخرى" في المنطقة، ودعا الى ضرورة استثمار الفرصة، وقال: "هناك، الآن، مكونات يمكن لليبراليين العرب استثمارها في عملهم، ولكن الأصوليين يعملون بدأب من أجل سد الفجوة". والمكونات التي أشار اليها الدكتور سعيد هي قيم صناعية ومؤسسات، من قبيل حكم القانون، ودستور عملي يلائم ظروف البلد، ومجتمع مدني مزدهر، ونخبة أو طبقة وسطى تقود الرأي العام ومستعدة للمشاركة في مناقشة ما هم عليه وما الذي يريدون تحقيقه، بما في ذلك تقييم علاقة بلدهم بالولايات المتحدة.

ويعتقد عبد المنعم سعيد ان مصر ولبنان وتونس والمغرب تعتبر أمثلة على الدول العربية، التي تتوفر فيها مثل هذه المكونات، وحيث الليبرالية تتمتع بفرصة أفضل في النجاح. ولكي لا يعتقد أحد أن البديل الليبرالي يمكن أن يتقدم في مساره من دون عوائق، حذر الدكتور سعيد من ثلاثة أشياء في العالم العربي تطرح أكبر التحديات، وهي النزاع العربي ـ الاسرائيلي، وأفكار الاسلام السياسي، والافتقار الى الحوار مع الولايات المتحدة والغرب.

أين يقف العراق في كل هذا ؟

يقول عبد المنعم سعيد: "ان الطريق شاق". فالعراق يفتقر الى عدد من المكونات الضرورية للمعالجة الليبرالية الجديدة. وهو مجتمع أكثر ميلا الى العشائرية منه الى المجتمع الصناعي، على الرغم من ان السكان متعلمون على نحو معقول. انه يفتقر الى المؤسسات، فقد دمر صدام معظمها وجاءت الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لتدمر الباقي. ومع ذلك فان علينا أن ندعم الآن الشعب العراقي الذي تخلص اخيرا من صدام ومن حزب البعث.

يبقى انني، شأن كثير من العرب، عارضت بشدة الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق. ولكننا لا نستطيع ان نصلي من اجل الاخفاق في العراق. ولا يمكننا أن ننزل الضرر بمصالحنا في نوبة غضب بتمني الكارثة للعراق باعتبارها "درسا" للولايات المتحدة. يجب ان يهزنا الاحتلال القاسي للعراق ويدفعنا للقيام بعمل. لقد أنهت شقيقتي نورا، 17 عاما، لتوها، واجبا دراسيا عن العراق في بداية نشاطها في الجامعة الأميركية في القاهرة. وجاء في استنتاجها: "ان أي صيغة لحكومة تفرض على الشعب العراقي لن تؤدي الا الى زيادة الغضب والمقاومة وتجعل الأمور أسوأ. ومن الأفضل ترك شعب البلد يقرر نوع الحكم الذي يريد". انني اتمنى الشيء ذاته للعالم العربي بأسره، حتى لا تكتب نورا عند بلوغها عمري الحالي مقالة ـ كما أفعل أنا الآن ـ تندب فيها عبء المذاهب القديمة ذاتها.

* كاتبة مصرية تقيم في نيويورك