أزمة الفنان السعودي: مترسبات اجتماعية عممتها الثقافة السمعية!

TT

نحن سجناء ثقافتنا..

هل يمكن لمثل هذه الجملة التقريرية، أن تشفي جل تلعثماتنا وأن تلخص كثيرا من المعوقات التي تجعلنا نحجل في سيرنا.

إذا لم تكن تلك الجملة كافية سأمعن في الإيضاح: إن المترسبات من المقولات المختلف عليها هي التي تسير المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن، ففي زمن كانت فيه المعرفة أو العلم (العلم بمعنى الأخبار) يتناقل شفويا جعل أحكاما مختلفا حولها تعمم من غير ان تحمل ملحقاتها المفسرة والشارحة لها ولأن الثقافة السمعية تردم العمق وتسطح الأشياء وتختصر الأحكام في قليل من الكلام مكتفية بزهرة النتيجة، فهي (الثقافة السمعية) لا تلتفت كثيرا للاختلافات او الأسباب أو الالتباس حول الحكم.. فهل تكفي هذه التوطئة لكي أنطلق منها للحديث عن مضمون السؤال الباحث عن التفسيرات المنطقية لسلوكياتنا ازاء الغناء والمطربين.. فنحن نتقرب منهم ونرفضهم في آن، هذا الاقبال والادبار تتحكم فيه تركيبة ثقافية ودينية واجتماعية تم خلطها حتى لم نعد نميز أيهم الاصوب.

وأنا أتحدث هنا عن تركيبة الشخصية السعودية في اطارها الاجتماعي وليس في اطارها الجغرافي، فثمة فروقات اساسية في البنية الاجتماعية وفق موقعها الجغرافي وهذا أمر ربما يقودنا الى التنوع المذهبي المشكل للبنية الثقافية لكل منطقة، وربما كان هذا الامر صائبا قبل ان تذوب المذهبية في اطار واحد..

اذا سيكون الحديث عن المجتمع السعودي في غالبيته أو في ما يمكن الاشارة اليه كمجتمع يتلقى رسالة واحدة ويبث هذه الرسالة حتى وإن كان غير متيقن منها، وهو بهذا لا يعني جموع المجتمع المتباينة وإن كان هذا التباين غير ظاهر في تشكيل الرسالة التثقيفية.

ويدل على تعميم هذه الرسالة أن ينهض طفل من مقاعد الصف الاول الابتدائي أو السادس ليقرر من غير استثناء أو تحرز بأن الغناء حرام في عمومه.. هذا الحكم يمكن ان يطلقه ايضا رجل لا يملك من الثقافة سوى معرفة كيف يملأ بطنه من غير ان يتنبه لمكونات مخرجات تلك البطن.

هذا اليقين الصارم لدى هذا الطفل أو رجل الشارع هو من انواع المترسبات الثقافية التي عممتها الثقافة السمعية ولم يتم تنقيتها وجعلها مصانة تستوجب التريث في اطلاق الحكم الشرعي.

إذا فالموقف من الغناء موقف تحريم في أدنى الثقافة وأعلاها.

ولو اردنا الرجوع للخلف والقاء نظرة على المغنين عبر التاريخ فإننا سنصدم في البدء بالتقعيد بأن الغناء محرم (هذه هي الرسالة الاولى التي تم بثها من غير ان تصحبها ملحقاتها وتفسيرتها تكفلت الثقافة السمعية بتوزيعها على أفرادها من غير ان تشير الى اختلافات العلماء حول هذه الجزئية أو شرح الالتباس أو المناسبة أو المغايرة التي أرادت لها القاعدة ـ من التقعيد وليس نسبة للقاعدة اياها !!)

وربما كان القصد في التحريم الاول منطلقا من مخالفة أهل الكتاب في طريقة معيشتهم، ولكون أهل الكتاب تدخل الموسيقى كعنصر اساسي في العبادات خشي المشرع من التباس بين فكرين أحدهما ناشئ والآخر مستنسخا، فحدث شيء من الابتعاد عن المعازف (ربما كان وقتيا) لكي لا ينتصر القديم على الجديد خاصة ونحن نعرف ان القديم يسيطر بأتباعه وبحكم العادة.

ومن بدء الثقافة الاسلامية التصقت المعصية بالموسيقى، وتكونت ثقافة ذات نواة حديثة تربط بين المعصية والموسيقى، ولأن الموسيقى أداة الغناء ارتبطت بالمغني أيضا وأصبح المغني شارة للمعصية، هذا في الجانب الديني، وإذا واصلنا تتبعنا للغناء والمغني فسنجد أن العامة ارتبط الغناء في ذهنيتهم بالخلفاء والاثرياء وثمة حالة عدائية غير ظاهرة تتحكم في العامة تجاه هذه الفئات وانها جالبة للشر والفساد (وهذه النظرة تم تعميمها بنص قراني من غير الاحاطة بالبعد التاريخي لما جاء في القرآن والحالة التي أشارت إليها الآية) ومن هنا تم تعميم أن الغناء والمغني هما من أدوات الشيطان التي يغوي بهما عباد الرحمن.

كما ان رموز الموسيقين والمغنين في تاريخنا هم من فئة الموالي، لذلك ارتبط الغناء بالموالي والاماء وهذه الفئة هي فئة العبيد الأقل مكانة وفي المراتب الوضيعة في السلم الاجتماعي وهذه النظرة الدونية انعكست على الغناء والمغنين، فتجد أن العامة والتي تمثل الطبقة السفلى في التراتبية الاجتماعية وجدت لها طبقة تترفع عليها وترى نفسها أفضل منها حتى وإن كانت هذه الطبقة تخدم في بلاط الخلفاء والامراء، ولأن حفلات الغناء أضيف لها الرقص من خلال الجواري اللاتي كن محل الوطء للمالك من غير الحاجة الى عقد نكاح فقد ارتبط الغناء في ذهنية العامة بالمجون والتفسخ اضافة لانثيال مخيلة العامة في وصف هذه الجلسات والصاق معصية تعد من الكبائر بهذه الجلسات وهي شرب الخمر.

كما ان الغناء يستوجب حالة اقتصادية جيدة، فمن يقرب مغنيا أو يرغب في سماعه يوفر له الغذاء والاجر وهذه الحالة لم يكن تقدر عليها غالبية المجتمع في ذلك الحين.

من هنا نرى ان مخيلة العامة ضاعفت في التحريم ولم تترك منفذا الا ورغبت في ملئه بكل المفاسد والحاقها بالغناء والمغنين.. هذه النظرة التاريخية تم سحبها الى زمننا مع اضافة دلائل جديدة على فسوق المغنين وانحرافاتهم وساهم في هذا أن معظم من امتهن الغناء والموسيقى (في مجتمعنا السعودي الحديث) لم يكمل دراسته، هذه النقطة كان لها أثر آخر في جعل الغناء يمثل بابا من أبواب الانحلال، فخلال السنوات الاربعين الاخيرة كانت الدولة تهيئ مواطنيها للتعليم والحصول على الشهادات الجامعية لشغل وظائف عديدة تحتاجها فكان النموذج للفرد الصالح هو الذي يكمل تعليمه ومن تعثر او تسرب من التعليم العام يمثل شخصية فاشلة وعاطلة، كما ان السهر لأوقات متأخرة من الليل سمة الشخصية المنحلة، ولأن المغنيين لم يكن مناسبا لهم إلا الغناء في الليالي توثقت علاقة الفسوق بهم.

وفي هذه السنوات المتأخرة أخذ الغناء وضعه الاجتماعي وتركزت عليه الاضواء وغدا محل حفاوة غالبية المجتمعات الاخرى وغدا ممثلا للطبقة المرتبطة بالاثرياء وتحللت نظرة العامة للغناء في كثيرا من المسببات الاولى وغدا الاقتران أو معرفة المغنين محل تفاخر جعلت كثير من الفئات تتخلص من حملها التاريخي او من ثقافة تجريم الغناء، وبقي من تنازعه ثقافته او مخزونه الثقافي يعيش متناقضا بين ثقافتين احدهما مخزونه وارثه والاخرى ثقافة الواقع.

من هنا نشأ الاقبال والادبار عند البعض، وهذا البعض هم الفئات العمرية التي تجاوزت الاربعين عاما من عمرها بينما نجد ان الفئة العمرية المحصورة بين 25 وما دون متحللة من ثقافة أغلب المجتمع (أقول هذا كحالة مراقب لحركة المجتمع مع علمي ان مثل هذا القول يحتاج الى احصائية ودقة في اطلاق الحكم ومع هذا فإن المتابع لحركة المجتمع يمكن أن يطلق ذلك الحكم مستندا الى ملاحظاته وإن كان بها تضعيف يحدث التضعيف إن كان الواقع الذي تحكم عليه يمثل مدينة داخلية أو مغلقة عبر تاريخها الطويل).

*روائي سعودي