.. من فرنسا إلى نيجريا.. وأين الأطفال في زلازل العلمانية والحجاب..؟

TT

القضية التي برزت حول الحجاب الإسلامي في فرنسا مثلما فهمتها هي مسألة وضع أولئك الذين يصوغون المواقف الدينية في المحك داخل المؤسسات التعليمية. دعوني أبدأ أولا بالاعتراف بأني أغبط أولئك الذين يرون هذه الخيارات التي أقحِمت فقط في الفترة الأخيرة لتحتل مقدمة الاهتمام في فرنسا بأنها مباشرة وخالية من أي موقف دوغمائي، على الرغم من أن هذه الأمور كانت معنا دائما.

في الظروف العادية قد أوافق على أن هذه المسألة ليست ذات أهمية على الإطلاق. فهو أمر مغر أن يتم تبسيط الحوار عند طريق استرجاع طبيعة الانتماء إلى ناد معا، فالمدرسة الحكومية لها قواعد معينة وإذا أردت أن تكون عضوا فيها أو إذا أردت أن تستخدم مرافقها فإن عليك أن تتوافق مع تلك القواعد أو أن تجد بديلا آخر.

مع ذلك فإن العالم الذي نحيا فيه تعرض للتبدل بشكل سريع ودرامي خلال العقود القليلة الأخيرة وقواعد الانتماء لهذا النادي أو ذاك والتي تخص جنس الفرد وأصله ما عادت مثل السابق مقدسة. إضافة إلى ذلك فإن الجني قد خرج من عنق الزجاجة ومخلوقات التعصب والشك والاستقطاب تملأ الطرق. والحوار غيِّب تماما وحل محله الإرهاب والترهيب، وأصبح بدلا من ذلك موضوعا للسخرية.

مع إدراكي لحقيقة أن الحوار الدائر حاليا يدور ضمن مناخ كهذا فقد يكون مفيدا إذا بدأت أولا بإشارة إلى ردي الشخصي حينما طرحت سياسة معاكسة تماما لما تطرحه فرنسا بشأن الحجاب في بلدي نيجريا ولم يحدث ذلك في الفترة الأخيرة بل منذ عشرين عاما قبل حتى تبني الشريعة في صياغة القوانين في العديد من ولايات نيجريا.

فبعد مرور عدة عقود على استقلال نيجريا وفي وقت لم تطرح خلاله مسألة الزي الموحد في المدارس الحكومية كمشكلة اجتماعية شعرت بالانزعاج الشديد حينما أمر وزير التربية بأن يُسمح لطلاب المدارس أن يرتدوا الملابس التي يحددها انتماؤهم الديني. وما عشته بصراحة آنذاك هو شعور بالقرف الشديد على إقحام هذه الفروق بين الشباب في مرحلة من حياتهم تتطلب تجنيبهم من الممارسات الغبية التي يطرحها عالم الكبار لتعميق فصل بعضهم عن بعض. كان رد فعلي عميقا وحادا ثم أدركت أن ذلك الإجراء قد دمر بعمق الفلسفة الاجتماعية التي أحملها في داخلي والتي بقيت دائما آخذها كأمر مسلم به.

ان المؤثرات الاضافية للنشأة بخصوص ردود الفعل هذه لا يمكن استبعادها، ولذا دعوني اعرض خلفيتي. ان المدرسة التي تعلمت فيها - في المرحلتين الابتدائية والثانوية - كانت تهتم بتقاليد الزي المدرسي.

وكانت المدرسة الابتدائية مدرسة بعثة انجليكية، كان زيها - قميص كاكي وشورت وأقدام حافية - لا يمكن تحت أي قدر من الخيال اعتباره مرتبطا بأي دين من دين الاوريسا التقليدية الى اليوروبا والزرادشتية. اما مدرستي الثانوية - او المدرسة العليا كما هي معروفة في بعض الاماكن - فكانت مدرسة داخلية - وفي يوم الاحد، كان يجري القداس في الكنيسة، بينما في يوم الجمعة كان المسلمون يتجمعون لأداء الصلاة. وفي يوم السبت كان الطلبة الذين ينتمون الى الكنيسة السبتية يذهبون للمدينة لاداء الصلاة بطريقتهم. وحتى المسيحيون كانوا يحترمون الخلافات بينهم. فقد مضى كل من الكاثوليكيين وأبناء كنيسة العناصرة في طريقه الروحي الخاص به. وباختصار، بالرغم من انه يمكن وصف هذه المدرسة، وهي مملوكة للدولة، بأنها موجهة اساسا نحو التقاليد الانجليكية، فإن حرية العبادة لكل تلميذ لم تكن مضمونة فقط، بل جزءاً من روتين الحياة في المدرسة.

ان ادعاء وزير التربية بان الازياء التي ترتدى في المدارس الثانوية هي أزياء مسيحية حجة باطلة الى درجة الى ان عددا من زملائه المسلمين عبروا عن شكوكهم بخصوص دوافعه. وهذه الدوافع تنعكس اليوم في الانقسامات الاجتماعية العميقة التي تصاعدت مع مرور الوقت وأصبحت تعبر عن ذاتها في صدامات دينية ذات وحشية متزايدة.

ان السؤال الاساسي بالنسبة لي هو الآتي: ما هو الذي يدين به مجتمع البالغين للجيل الاصغر في عالم تتجاذبه الخلافات: فبعدما لاحظت عمليا امثلة مختلفة، اجد ان نموذج نشأتي هو الافضل على كل النظم. فهو يشير الى انه بالرغم من ان حق العبادة، حتى في المدارس، هو حق مقدس، فإن المجتمع يستفيد على المدى الطويل، من تقليص المظاهر الدينية العلنية في المدارس. والآن اضع نفسي هنا في منصة المبادئ، وليست التفاصيل. وربما نجد ان دعم او تأكيد بعض المظاهر الدينية في أزياء المدارس غير معيقة، بينما يصيح البعض بعكس ذلك. انا ارتبط، بصفة اساسية، بسياسة خلق اكبر قدر من التوحد بين الجيل الاصغر. والسماح بوجود خلافات في هذه الايام تتعلق باختيار الممارسات الروحية، لا اجد ما يضر العقول الشابة. عندما ترتبط بالآخرين في تعبيرات روتينية عن الهوية المشتركة، وهو ما يشمل، بصفة اساسية، زي المدرسة.

واذا ما قدر لنا ان نقارب هذه القضية بصورة غير مباشرة، ونضع الدين جانبا في الوقت الحالي يتعين علي أن اضيف بأنني أحمل الرأي ذاته حول المدارس حيث تتوفر الحرية المطلقة في اللباس بالنسبة لطلاب المدرسة. وما يعنيه هذا هو أن أطفال العوائل الغنية يمكن أن يأتوا الى المدرسة وهم يرتدون أزياء مشاهير المصممين، ويشكلوا جمعيات يميزها الوعي النخبوي، على خلاف أطفال العمال والمزارعين الذين يحصلون على قطع الملابس القديمة في محلات المؤسسات الخيرية أو أسواق الملابس المستعملة.

ان قراءة تبسيطية لحقوق الأطفال في التعبير عن أنفسهم هي المسؤولة عن الاضطلاع ببيئة تعليم الشباب من جانب عروض الأزياء، وهو مشهد سائد تماما في بلدان مثل الولايات المتحدة. ويستند اعتراضي على هذا الى الاعتراف بان المدرسة الحديثة هي معادل لثقافة مرحلة العمر في المجتمعات التقليدية. وهناك تتحدد طقوس الانتقال من مرحلة وجود اجتماعي الى أخرى بقواعد تقلص نزعة حب الظهور، ويشمل ذلك قاعدة أزياء صارمة. ويهدف ذلك الى خلق تضامن جماعي مشترك يتميز فقد عبر العمر والقدرة على التعلم، مما يمكن الطالب من استيعاب التعليم الرسمي، فضلا عن الاحساس بالمكان والمسؤوليات في إطار المجتمع. وفي جوهر هذه الاستراتيجية يكمن توجيه الطلاب على نحو هادف. فهذا هو المكان الوحيد في حياة الطفل حيث يمكن له أن يرى الآخر باعتباره كائنا انسانيا مساويا له.

وفي وضع توجد فيه تعددية أديان، فان قواعد الزي الموحد، بالتالي، تجتذبني كوسط للتحكيم العلماني، وظيفة يبطلها الابتعاد الواضح عن الأزياء. واذا ما عدنا للحظة الى تجربتنا النيجيرية فان سلوك وزير التربية في اصدار مرسوم يتعلق بالسياسة الثنائية في مجال الزي ـ كما عبرت في حينه ـ بدلا من الزي النظامي الواحد كان تراجعا عن مزية تربوية عميقة في تكوين شخصية شبابنا. وذلك المؤهل هو أساس متين في اكتساب مفهوم الواحدية، وهو ما لا يحرم الاحتفاء بأديان الطلاب مع عوائلهم في البيوت او أماكن العبادة في العالم الخارجي والمواسم الدينية.

ثمة تضحيات جسام يقدمها الآباء والامهات في سبيل عيش حياتهم من جديد من خلال ذريتهم، رغم الصعاب الجمة والإجحاف وعدم الاستقرار. هذه التضحية، او الخطر، موجود فقط في ذهن الوالدين، اذ ليس هناك طفل يمكن ان يفقد ارتباطه الروحي بفعل اختلاطه بالآخرين لمدة بضعة ساعات كل يوم. فالأطفال يخلقون عالمهم الخاص بهم ويجب ان يجدوا التشجيع على ذلك. كما انهم يدخلون مجددا عالما آخر وهم في طريق عودتهم، فضلا عن مقدرتهم على التوفيق والانسجام بين هذه العوالم دون معاناة اذا تركوا وشأنهم. هذه العملية في حد ذاتها تشكل جزءا من العملية التربوية وتكسب تجربتهم ثراء اكثر. التعليم يتضمن عملية توفيق وتكييف، كما يجب ان اضيف انني اتخذت هذا الموقف في سياق وضع يسمح فيه بالعمل لمؤسسات التعليم الخاص، بما في ذلك المدارس تابعة للإرساليات، على ان تمنح هذه المدارس حرية اتخاذ القرار فيما يتعلق باختيار الزي المناسب للدارسين بها، إلا ان مناهجها يجب ان تخضع للفحص بواسطة الجهات المسؤولة لاسباب آمل ان تكون واضحة.

ويبقى ان إزالة أي احساس بالتمييز الطبقي من خلال توفير قدر كاف من التعليم يصبح امرا منطقيا فقط اذا صاحبه حرص مواز على ضرورة عد تشجيع إظهار الفوارق الدينية. عبارة «انا اكثر ثراء منك» كسلوك وموقف وسط بعض الشباب يجب ان تقابل منا باستنكار فوري. كما لا تقل اهمية مسؤولية المؤسسات ازاء الحد من اللافتات والشعارات التي تترك في أذهان بعض الشباب انطباعا بأنهم اكثر تقوى من الآخرين.

*مؤلف وكاتب مسرحي نيجيري حائز على جائزة نوبل للآداب عام 1986.

خدمة «تريبيون ميديا سيرفيس» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»