«الإرهاب والإصلاح .. معادلة الخروج من المأزق»

TT

في خضم التفاعلات، وفي محاولة لفهم ما يجري، وبالتالي استيعاب الأحداث وقراءتها قراءة متأنية، فإن الرصد والتحليل والتشريح يقتضي الحياد والموضوعية.

على أن السؤال الحارق هنا يدور حول واقع العرب وأزمتهم الراهنة مع ذواتهم ومع الآخر، على حد سواء. لماذا تطفو على السطح تلك الحالة الشيزوفرينية (الانفصامية)، كلما جرت احداث ونشبت حروب؟ وما هو سبب ذلك الانقسام الدائم بين العربي والعربي في الرؤية والتحليل وتسمية الأشياء؟! على ان هنالك الكثير من المراحل التاريخية وتراكماتها مما تبلور عن فواصل مهمة أثرت في طبيعة وفكر الإنسان العربي، وكانت التمخضات التاريخية الركيزة الأساسية لمجمل التأثيرات التي طرأت على حياة الشعوب، والعربية منها تحديدا.

ثمة تناقض موجع في العقلية العربية، ولعل الحالات المعيشة في يومنا خير شاهد على تأكيد تلك الحقيقة المؤلمة حتماً، وإن كانت هي عبارة عن ترسبات متراكمة تكلست بفعل الزمن واحداثه الغابرة، فكانت بمثابة حجر عثرة في سبيل الفهم والتنوير، ناهيك من مناهضتها لروح العصر وتموجاته.

وحين التأمل في طبيعة سلوكياتنا وثقافتنا المنتجة وتشريحها، نلحظ وجود هوّة عميقة وألغاز وشيء من التلونات والرغبات وقاموس مهول من المفاهيم، فالصراع والمواجهة والعدو والمؤامرة والقوى الخارجية واللغة الدفاعية والإقصائية وما إلى ذلك من مصطلحات متسمة بنفي الآخر والدخول في منظومة «فعل ورد فعل»، فتعكس حالة التشرذم والتقوقع والانغلاق التي نعيشها كشعوب مع بعضنا بعضا.

ورغم اليقين القابع في أذهاننا، من ان هناك الكثير من القضايا العالقة، والكثير من الحزازات المترسبة في القاع السوسيولوجي للإنسان العربي، إلا انها لم تتم تعريتها، لكنها لا تلبث ان تتحول الى سلوك لحظة الحدث وكأن هناك رغبة في تناسي أو تجاهل لغة التواصل والإخاء والتسامح والتعايش، ولا سبيل لنقد الذات، بل حالة من الانفصامية، وإن كانت لا تشئ بهذا في ظاهرها، إلا أن باطنها مليء بتلك الترسبات التناقضية!.

ويبدو أن حال العرب يكشف أنهم مغرمون بالتطلع إلى الماضي اكثر من المستقبل، وكأنهم يعيشون متاهة فكرية، فهذا مجتمع غارق في الأحلام (النستالوجية) والتمسك بالماضي، وذاك رافض التفاعل مع الحاضر، وآخر يبحث عن عدو ليخرج من مأزقه، والأغلب يعاني من مصاعب داخلية وعدم قدرة مواكبة التحولات، فكان الحل هو الانغلاق على الذات والتكوّر والانقطاع عن الواقع، فكان ان خرج من بيئتنا العربية فئات لم تلبث ان نزعت إلى استخدام لغة العنف الدموية وهي طريقتهم لرفض الواقع، غير انه يجب ان نعترف بمسؤوليتنا (حكومات وشعوباً) إزاء ما حدث في الرياض والجزائر ومصر والمغرب، واننا ساهمنا وبطريقة ما في حدوث تلك الأعمال الإرهابية، فتلك الفئات وإن كانت تحمل خطاباً متطرفاً وشاذاً، إلا انها تنتمي إلى عالمنا العربي، ونسيجها الثقافي والفكري تكوّن عبر مراحل وفترات وفي أماكن متعددة في عالمنا العربي، وللأسف كنا مهملين نسبياً في أخذ تلك التحولات على محمل الجد، فالكل يُقر من تحت الضرس، ان كل شيء على ما يرام!

ولعل الأسباب (الجذور)، وإن اختلفت من قطر لآخر، إلا أن لُبّها يدور حول ضبابية للرؤية وعقم فكري لفهم النصوص والمفاهيم، فضلاً عن تحديد مواقف واضحة إزاء الحداثة وعلاقتنا بالآخر، ناهيك من التمسك بتلابيب التراث بعُجره وبُجره. ولعل السبيل للخروج من هذه الدوامة، يكمن في تحرير العقل وإطلاق الفكر الحر والمراجعة النقدية لرؤيتنا ولقراءتنا للمفاهيم وحقيقة تسميتنا للأشياء، ومتى ما ارتهنّا إلى تلك الطريقة، استطعنا أن ننقذ المواطن العربي من التهميش واكتوائه بنار الانفصامية في داخله، حيث تضخم الأنا والنرجسية، وواقعه حيث الضعف والانحدار والانكسار.

غير ان الحقيقة المؤلمة تكمن في أن معتنقي هذا الفكر، المتطرف، ينطلقون من ارضية آيديولوجية راديكالية لا تؤمن بالحوار ولا بالرأي الآخر، ولا يرون المستقبل والحاضر إلا من خلال الماضي، كما انهم في ذات الوقت لا يستطيعون الانفكاك من هذا الإسار الفكري الظلامي، الذي يمنعهم من رؤية الأشياء كما هي، بل يصورها (كما يجب أن تكون)، ولعمري، هذه أزمة فكرية خانقة، لا ينفع معها المهدّئات ولا المسكّنات، فالحل يكمن في البتر وقطع العضو الفاسد، وبالتالي إنقاذ الجسد من الموت! على ان البتر هنا، لا يعني الملاحقة الأمنية والمراقبة الاستخباراتية والمداهمة وما إلى ذلك من مصطلحات أمنية لكشف تلك الخلايا ومحاكمتها.

أقول لا تعني ذلك، رغم أهمية ما سبق، لكن ما اقصده هنا يتعلق بالمعالجة الدائمة وليست اللحظية، والبتر ليس بالضرورة ان يكون لحظياً، بل يستند إلى استراتيجية تنزع إلى الدراسة العلمية المعرفية ومحاولة ربطها بالواقع، لا سيما ان هنالك أسباباً سوسيولوجية وسايكولوجية لظهور هذا الفكر المتطرف الذي يجد في الشريحة الشبابية المكان المناسب للنمو والتوسع، وبالتالي تحقيق المشاريع الإرهابية التي يسكبها مفكروهم (عادة ما يكونون في مرحلة عمرية اكبر من أولئك الشباب المغرر بهم).

هذه الاستراتيجية تنزع إلى إعادة تشكيل الخارطة الثقافية والاجتماعية والدينية بطريقة توائم العصر ولا تغفل الثوابت، وهذا يستدعي ـ على سبيل المثال ـ الشروع في تفعيل مشروع الإصلاح بمجالاته المتعددة (المشاركة السياسية ـ حقوق الإنسان ـ دور المرأة) ومراجعة الخطاب الديني وتقليديته بحيث يكون منفتحاً ومرناً ومتجدداً، وهذا يقودنا إلى طرح القضية التعليمية وتطوير المناهج ومضمون وفلسفة اليوم الدراسي وكيفية الاستفادة منه في خلق اجيال مستنيرة وفاعلة تنتج وتنزع إلى مفاهيم التعايش والتسامح والتواصل، ولعل المعادلة تستقيم هنا، وتكشف الحل، فإننا لو فعّلنا مؤسسات المجتمع المدني وفتحنا قنوات عدة لامتصاص هذه الإفرازات الفكرية لهذا التيار أو ذاك، متحلين بالشفافية والمكاشفة، فإنه ـ بلا ريب ـ سيؤدي إلى اضعاف حضور هذا الفكر وتجفيف تأثيره مما يؤدي إلى تلاشيه في المستقبل المنظور، لذا فإن تلك الحلول وغيرها، عليها ان تستند إلى المراجعة والأساليب النقدية والمعرفية حتى يتسنى لها المعالجة والتأثير. أما الحلول الأمنية فقط أو الخطابات الرنانة العاطفية والشجب والاستنكار فقط، فلن تحقق العلاج، وإن كان تأثيرها لحظياً، إلا أنه سيتلاشى بعد حين! فاتفاقية مكافحة الإرهاب تبقى اتفاقية غير فاعلة ما لم ترتبط بدراسات استراتيجية تُعيد تشكيل الخارطة الثقافية والاجتماعية والدينية بنقدها أولا وتكون متزامنة مع مشاريع الإصلاح، وهذا في تقديري الأسلوب الأمثل للخروج من هذا المأزق، إن أردنا ـ فعلاً ـ إن نخرج منه!

كاتب وباحث

[email protected]