أيام فاتت

TT

من العيوب التي كثيرا ما تؤخذ على الحكم الديمقراطي انه يستغرق الكثير من الوقت والجهد لإقرار اي شيء. فالديمقراطية تعني التعددية والتعددية تعني حق كل طرف في المناقشة والاعتراض.

كان من امثلة ذلك ما جرى في العراق عام 1942 عندما نشأ نزاع بشأن النائب محمد حسن حيدر، نائب رئيس مجلس النواب. لما كان المجلس في عطلته، فقد اقتضى استدعاء النواب وتطلب ذلك الحصول على ارادة ملكية، غير ان الوصي على العرش كان قد غادر البلاد بعد انقلاب رشيد عالي الكيلاني. فقام نائب رئيس المجلس بتوجيه الدعوة للنواب للمصادقة على النظام الانقلابي الجديد.

بيد ان سقوط الحكومة الانقلابية وعودة الشرعية للبلاد، اوقع محمد حسن حيدر في طائلة القانون لتجاوزه متطلبات الدستور وانظمة المجلس فألقي القبض عليه واحيل للمحاكمة بتهمة الاعتداء على الدستور وجمع المجلس جمعا مخالفا للقانون.

كان هذا كله امرا واضحا ومطروحا امام القضاء للبت فيه. ولكن مشكلة جانبية اثيرت بشأنه، وهي كيف يمكن التعامل مع هذه التهمة؟ ايمكن اعتبارها جريمة سياسية ام جريمة عادية؟ احتدم النقاش بشأنها بين صفوف المسؤولين. تقرر اخيرا احالتها الى اللجنة الحقوقية لمجلس النواب. اجتمعت اللجنة وحضر اجتماعها عدد من الوزراء للإدلاء بآرائهم والشهادة بمعلوماتهم. كان بينهم صادق البصام، وزير العدلية، وصالح جبر وزير الداخلية، والسيد عبد المهدي وزير الاقتصاد، وجمال بابان وزير الشؤون الاجتماعية وعدد كبير من اعضاء مجلسي النواب والاعيان. انتخبت اللجنة السيد عبد الهادي الظاهر رئيسا لها، وكان من الحقوقيين البارزين.

استمرت المداولات والمحاججات لعدة ايام. راح البعض يستشهدون بالسوابق القانونية والدستورية التي مرت بها الانظمة الديمقراطية في اوروبا. أورد البعض النصوص والنظريات الدستورية من كبار الفقهاء العالميين، ولا سيما من شروح الدستور البلجيكي في هذا الموضوع. لم يشأ أحد ان يحسم الأمر اعتباطا او ارتجالا او تنفيذا لأوامر صادرة من اعلى. نظروا اليه كأمر يتعلق بحقوق الانسان وينبغي ان يبت فيه في اطار العدالة والقانون واستقلال القضاء. تقدم مثلا صادق البصام، وزير العدلية فقال ان من حقوقه كوزير ان يقضي بحكم القانون في أمر التفرقة بين الجريمة السياسية وغير السياسية، فرد عليه روفائيل بطي، احد اعضاء اللجنة بأن حق الوزير في هذا الأمر يقع في اطار قانون السجون فقط ولا يسري على الامور المتعلقة بالدستور والقوانين الاخرى.

استمر الجدال سجالا حتى قررت اللجنة بالاكثرية اعتبار الجريمة جريمة غير سياسية، ولكن الاقلية التي عارضت ذلك ادرجت اعتراضاتها ووقع كل منها على اعتراضه على قرار الاكثرية.

جرى كل ذلك خلال حرب مصيرية كانت بريطانيا تخوضها ضد المحور وبعد انقلاب عسكري جر العراق الى حرب ضدها وشرد العائلة المالكة من بغداد. ومع ذلك قامت اللجنة بمداولاتها بكل حرية وامانة. يذكر المؤرخون ان اقطاب النظام، كنوري السعيد وصالح جبر كانا يدوران ويلفان في اروقة المجلس يحاولان ويتوسلان بأعضاء اللجنة لدعم وجهة نظر الحكومة، يداعبانهم آنا ويجادلانهم آنا آخر، لكن وبكل جلاء دون اي ضغط او تهديد.

أيام وفاتت.