زرع الفقر وتوزيع الثروة

TT

تراوح الانظمة الاقتصادية في العالم العربي بين مبادىء القرن التاسع عشر وقواعد القرن الحادي والعشرين. ويجمع بينها جميعها، من اقصى المغرب الى اقصى الشرق، انها اقتصادات واهية وغير منتجة وتفتقر الى المحركات الذاتية التي تدعم فكرة البقاء والقدرة على المنافسة. ولذلك يقوم فارق كبير بين الدول الغنية والدول الفقيرة، او بين الطبقات الغنية والفقيرة، لأن الاكثرية الساحقة من الدول لم تبلغ مستوى زراعياً او صناعياً او حتى خدماتياً، يشكل في حد ذاته ضمانة الاستمرار او عنصر النمو.

ويعود السبب الرئيسي في غالب الحالات الى طبيعة الانظمة التي اهملت الاستثمار الخارجي او الوطني او العربي والى الفساد والافتقار الى المخيلة والتخطيط والهمَّ الانساني. وهكذا بقيت الثروات الطبيعية الهائلة، في بلد مثل العراق او ليبيا او السودان، مدفونة في الارض. وعندما تحدث صدام حسين، غير مرة عن «توزيع الثروة»، كان يقصد بذلك مال الكويت والخليج وليس تطوير ثروات ومقدرات وطاقات العراق التي تفوق بالتأكيد ثروات المانيا الطبيعية وربما فرنسا ايضاً، اذا احتسبنا الثروة النفطية. وبدل ان تشكل الدول العربية سوقاً ضخمة واحدة تطلعت كل دولة الى ثروة الاخرى على انها ثروة مسلوبة منها. ولم يستطع الاتحاد المغاربي ان يقطع خطوة واحدة الى الامام مع انه يضم بعض اغنى دول الارض. وبدل ان تتبادل هذه الدول الخيرات واليد العاملة، نرى المهاجرين المغاربة يموتون على مدخل جبل طارق فيما تكتظ مدن ليبيا بالعمال الافارقة. وبدل ان تكون الحدود الجزائرية المغربية واحدة من أوسع نقاط التبادل في العالم، فهي مغلقة باصرار. وباستمرار. وبعدائية مزعجة.

وفي الصحف العربية كل يوم مقال على الاقل يلعن العولمة. وفي ظن الكتَّاب ان العولمة هي اميركا وليس حتميات التاريخ وضرورات الجغرافيا. فالعولمة ليست قراراً ولا زرا كهربائياً بل مسار طبيعي للتطور لا يمكن ان يرد. والبقاء خارج العولمة انتحار اقتصادي واختيار للفقر والتخلف. والسبيل الوحيد الى تطوير ثقافة الوحدة العربية هو الانضمام الى اقتصاد الانتاج والخروج من عصر التكايا. اي ان ننتج قمحنا في السودان وثيابنا في سورية ومطابعنا في مصر وان نبحث للاجيال الحالية والقادمة عن اعمال وفرص ومصانع، ليس فقط عن وظائف تأكل الثروات كالحيتان. وفي المجموع يشكل العرب اكبر نسبة وظيفية في العالم. اي اكبر عبء اقتصادي ووطني. واذا حاولت اي من الدول المتضررة تغيير هذا الواقع فسوف تقع في كارثة وطنية، لأن لا مكان يذهب اليه هؤلاء سوى البطالة والفقر وتفقيس المشاكل الاجتماعية التي تشكل القنبلة الذرية الحقيقية في العالم العربي.

لقد بدأت الصحف والتلفزيونات تتحدث الآن صراحة، عن واحد بالالف من المشاكل والقضايا التي تواجه الاسر العربية. وقد بدأ الناس يدركون اننا ننام على بحر من القضايا العائلية والاخلاقية والقانونية والمدنية. وقد اعتقدنا لزمن ان عدم الحديث عن هذه المآسي يعني ان لا وجود لها. فما ان فتحت بعض البرامج ابوابها وبعض الصحف صفحاتها حتى تبين اننا مجتمعات مريضة مثل سواها واننا اسر بشرية لا تستطيع ادعاء الكمال، وان اخفاء القضايا القائمة في البيوت، خطير ومحزن مثل طرحها.