التحرك العربي المطلوب دفاعا عن النفس

TT

حفل الأسبوع الماضي بسلسلة من الاتصالات واللقاءات العربية، لعبت فيها السعودية دور المحرك والمحرض. وهذه هي المرة الأولى التي تلعب فيها هذا الدور والذي كان في الماضي حكرا على مصر. وربما يشكل تبادل الأدوار هذا ملمحا بارزا من ملامح التغير في الصورة السياسية العربية التي نعيشها، بعد التطورات الكبيرة في أسلوب عمل السياسة الأميركية.

يتم التحرك السعودي باتجاه مصر وسوريا، وهي الدول التي شكلت معا، وبخاصة في السبعينات، محورا سياسيا موحدا كان المحور الأساسي في خوض حرب تشرين الأول 1973 على الجبهتين المصرية والسورية ثم على جبهة حظر تصدير النفط، وتظهر التحركات السعودية الراهنة وكأنها محاولة لإحياء ذلك المحور، مع أن الموضوعات المطروحة الآن على الجميع تختلف عن موضوعات السبعينات.

فالموضوعات المطروحة الآن تشير إلى ضرورة التحرك لمواجهة العسف الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى ضرورة تحريك الجامعة العربية وتطويرها، وإلى مواجهة الهجمات والضغوط الأميركية التي تتعرض لها دول مثل سوريا والسعودية وفلسطين، تحت شعارات التغيير والديمقراطية، بينما تختفي الأهداف الحقيقية وراء هذه الشعارات البراقة.

إن كل طرف من الأطراف العربية التي تتحاور الآن، تواجه مشكلاتها بطريقة تختلف عن الأخرى. وإذا بدأنا بمصر، وهي متحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية منذ زمن، نجد أن اتفاقات كامب ديفيد التي عقدتها، فرضت عليها، صراحة أو ضمنا لا فرق، أن تتخلى عن دورها العربي الفاعل، وأن تنشغل بمنطقة نفوذها الحيوية المحيطة بها متمثلة في السودان وليبيا. ومع أن مصر لن تسلم أبدا بهذه الحصيلة من اتفاقات كامب ديفيد إلا أنها وجدت نفسها في كثير من الأحيان مجبرة عليها، وبدت في كثير من الأحيان وكأنها تعمل دبلوماسيا في إطار السودان وليبيا فقط، حيث الكلمة العليا لمصر في البلدين وفي المسألتين. وهكذا كانت مفاوضات السلطة في الخرطوم مع حركة التمرد في الجنوب، تمر في القاهرة، فهي الوسيط بين المتحاربين، وهي العاصمة التي تستقبل كل طرف على حدة، انطلاقا من التسليم بأن السودان هو منطقة حيوية للأمن القومي، وبخاصة بسبب نهر النيل وقضية المياه. وسلم الكثيرون لمصر بالدور نفسه في ليبيا، حيث برزت مصر لسنوات عديدة راعية لليبيا في صراع الأمواج داخل مياه المحيطات المتلاطمة من حولها، والتي اتخذت حينا إسم رعاية الإرهاب، واتخذت حينا آخر اسم طائرة لوكيربي.

ولكن مصر عاشت خلال العامين الماضيين صورة سياسية غريبة. جرت تحت أنظارها وعلى بعد أمتار منها، مفاوضات بين المتصارعين في السودان، برعاية أميركية مباشرة، ومن دون دور لمصر في تلك المفاوضات. وكان مصير منطقة تخص أمن مصر القومي يتقرر على صعيد السلطة والثروة، وربما مستقبلا على صعيد الوحدة أو الانفصال، بينما الدبلوماسية المصرية بعيدة عن كل ذلك. وبالمقابل أخذت ليبيا تبتعد عن مصر خطوة خطوة، فتقاطع قمة عربية تنعقد في مصر، وتعلن عزمها على الخروج من جامعة عربية تقودها مصر، وتغادر العالم العربي نحو افريقيا بعيدا عن مصر. ثم كانت المفاجأة الليبية الكبرى بالإعلان عن تخليها عن برامجها التسليحية بناء على مفاوضات سرية جرت بينها وبين واشنطن ولندن، ومن دون أن يكون لمصر علم بذلك. وقد امتلك السودانيون درجة من التهذيب السياسي، جعلت الرئيس السوداني يزور مصر قبل أيام ليطلعها على النتائج النهائية الدائرة منذ عامين. ولكن المسؤولين الليبيين تصرفوا بشكل آخر، فقد استغلوا وضع الصداقة الجديد مع أميركا ليثيروا أزمة تمس الكرامة مع مصر، من خلال فرض التأشيرات المسبقة على المسافرين المصريين، ثم تمادى المسؤولون الليبيون في استغلالهم لحالة الصداقة الجديدة مع أميركا، حين قبلوا استقبال وفد مصري ثلاثي (وزير الخارجية، وزير الإعلام، مستشار الرئيس السياسي) جاء يبحث عن حل للأزمة.

إزاء هذين الحدثين في السودان وليبيا، واللذين تم إنجازهما بجهد أميركي مباشر، بدت مصر وكأنها معزولة حتى عن العمل العربي داخل دائرة مجالها الحيوي، وبدت دبلوماسيتها وكأنها مصابة بصدمة، أو بضربة على الرأس، فتقدمت السعودية لتقود التحرك الذي كان دائما تحركا مصريا طبيعيا، والذي لا يمكن إنجازه من دون مصر.

وتشكل السعودية النموذج الثاني في أسلوب التعاطي الأميركي مع المنطقة، فعلاقات الصداقة التي جمعت بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية لمدة خمسين عاما أو تزيد، لم يكن لها أي دور في رسم السياسة الأميركية الجديدة تجاهها. فأميركا التي تحتل الآن العراق، تقول للسعودية بكل فظاظة إنها محاصرة من هذا الجانب، ومن الجانب الآخر يحاصرها البحر، أو يحاصرها أصدقاء أميركا في الخليج، أولئك الذين تحرص السعودية عليهم لكي تبقي على مجلس التعاون الخليجي قائما كرمز للوحدة والتضامن بين دول المنطقة، فلا ترفع في وجه أحدهم حتى كلمة عتاب علنية.

وتشكل سوريا النموذج العربي الثالث، فهي مركز أساسي في المواجهة مع إسرائيل، وبينما هي تتعاون مع الولايات المتحدة في مقاومة الإرهاب، وتعلن استعدادها للعودة إلى التفاوض مع إسرائيل، تواجهها الولايات المتحدة بالضغوط التي تقارب دعوات الإذعان، وتهددها بأنها أصبحت محاصرة من ناحية العراق، ومحاصرة من ناحية إسرائيل. وتفعل الولايات المتحدة كل ذلك من دون أن ترى جرائم شارون اليومية الممتدة من نابلس إلى رفح، وتصبح قضية جرار إسرائيلي قضية أساسية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يتدخل فيها وزير الخارجية شخصيا، محملا حزب الله مسؤولية توتير الوضع لأنه دمر جرارا إسرائيليا داخل الأرض اللبنانية، وباعتراف قوات الأمم المتحدة.

هذه العوامل تستدعي التحرك والاتصال والتشاور تمهيدا لاتخاذ قرارات يتوفر لها نوع من الإجماع العربي، وهذا ما بادرت إليه السعودية فلقيت تجاوبا مصريا وسوريا مباشرا. ولكن نوع القرارات المطلوبة الآن من هذا التلاقي مختلفة نوعيا عن نوع القرارات التي تم اتخاذها في السبعينات. آنذاك كان المطلوب قرارات هجومية، أما المطلوب الآن فهو قرارات دفاعية، ضد الهجوم الأميركي على المنطقة، وضد الهجوم الإسرائيلي الذي بدأ يتسم بالهمجية.

وثمة جبهة أخرى تحتاج إلى قرارات عربية، هي جبهة الأنظمة العربية التي بدأت تندمج في المشروع الأميركي وتصبح جزءا منه، فهناك أطراف أصبحت مراكز للقواعد الأميركية، وهناك أطراف كالسودان أصبحت تحت السيطرة السياسية الأميركية، وهناك أطراف كليبيا تناضل لكي تنال الرضى وتقبل عضوا في النادي الأميركي، وكل ذلك بعد أن مضى العهد الذي كانت فيه بعض الأنظمة تعتبر نفسها صديقة للولايات المتحدة، مثل السعودية والمغرب ومصر، فالولايات المتحدة تقول الآن بمختلف الإشارات والوسائل إنها لم تعد معنية بالصداقة، وأن ما تسعى إليه هو الرضوخ.

القرار بهذا الشأن يتعلق بما يسمى تطوير الجامعة العربية. وقد انشغل العرب طويلا بالبحث عن وسيلة تجعل القرارات العربية ملزمة للجميع، عن طريق اعتماد تصويت الأغلبية، وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية، ولكن يبدو أن المسألة تجاوزت هذا الحد، وأصبح الأمر يتطلب تكوينا جديدا للجامعة العربية، يحدد مفهوما متفقا عليه للسيادة العربية وللمصلحة العربية، ثم تتكون الجامعة على أساس هذا المفهوم، فيدخلها من يقبله، ويخرج منها من يرفضه.

... وآمل أن لا نكون قد وصلنا إلى هذا الحد.