موت أمومة يصيب مستقبل الفلسطينيين بالعقم

TT

عندما فجرت ريم الرياشي نفسها اخذت معها آخر ادراك في عقول قادة حماس. فبتشجيعهم أما في الثانية والعشرين من عمرها على قتل نفسها، بعث قادة حماس برسالة الى الفلسطينيين، خصوصا النساء، تقول: لا قيمة لكم البتة.

ولا بد هنا من ملاحظة مفارقة مهمة. فبالنسبة للجماعات الإسلامية مثل حماس، ينحصر الدور الاساسي للنساء في المجتمع في الامومة، العناية بالاطفال، رعاية المستقبل. وقبل تجنيد ريم الرياشي، لم تستخدم حماس النساء في العمليات الانتحارية، اذ كانت تؤكد ان عند الفلسطينيين ما يكفي من الرجال المستعدين للتضحية بأنفسهم.

غير ان منع النساء من المشاركة في العمليات الانتحارية، لا يرجع فقط الى السبب التقليدي في توفر العدد الكبير من الرجال. فجماعة مثل حماس لا تشجع على مشاركة المرأة الفلسطينية في العمل خارج المنزل، وتفضل الحفاظ على واجهة ذكورية للمجتمع.

والمعروف ان الفلسطينيات من اكثر النساء العربيات تعليما ونشاطا سياسيا. وخلال الانتفاضة الاولى، كانت المرأة الفلسطينية تقف جنبا الى جنب مع الشبان الفلسطينيين، تلقي الحجارة على الجنود الاسرائيليين. ومع تدهور الاوضاع في غزة بسبب الاحتلال الاسرائيلي وفساد اجهزة السلطة الفلسطينية، زاد نفوذ حركتي حماس والجهاد الاسلامي، نتيجة لما تقدمانه من خدمات اجتماعية وأعمال خيرية. لكن، مع تزايد هذا النفوذ، بدأ العديد من النساء الفلسطينيات يشتكين من ضغط تلك الجماعات التي تريد تقييد حريتهن بإبقائهن في البيوت، وفرض مجموعة من الضوابط المتشددة عليهن. الآن، بعد تجنيد أم قامت بتفجير نفسها، فإن ما تقوله حماس هو: حتى هذا الدور الذي نقدره لكنَّ كأمهات لمستقبل فلسطين، لم تعد له قيمة.

ولكن، اذا كانت الامهات لا قيمة لهن بالنسبة لحماس، فمن له قيمة إذن؟

واذا لم يثر مصير ريم الرياشي جدلا داخل المجتمع الفلسطيني حول عدم جدوى وعدم أخلاقية تشجيع أم لولدين على تفجير نفسها، فإنني اشعر بالقلق ازاء تغلب احساس بالعدمية لا يمكن لنهاية الاحتلال، ولا لقيام الدولة المستقلة، القضاء عليه.

اني اعارض العمليات الانتحارية بكل اشكالها. وكما اظهرت الاحداث التي وقعت في الشهور القليلة الماضية في السعودية وتركيا والعراق، فإن العمليات الانتحارية ذات طبيعة لا يمكن التراجع عنها. ان الذين يتولون عمليات التجنيد وتشجيع الانتحاريين هم مجموعات من الناس يستخدمون مختلف وسائل التحكم، والملاحظة الجديرة بالانتباه هي انهم لم يقدموا ابدا ـ وهو أمر لا يثير الدهشة ـ أنفسهم أو أولادهم لهذا الطريق القصير (العمليات الانتحارية) للجنة!

لقد صدمتني، بل واغضبتني، عملية ريم الرياشي اكثر مما صدمتني ستون عملية انتحارية اخرى تمت منذ بداية الانتفاضة الثانية في سبتمبر عام 2000. انها عملية لا تجسد فقط الاستخفاف الذي اشرت اليه من قبل، ولكن ايضا العقم واليأس الذي وجدت فيه تلك الجماعات، مثل حماس، نفسها فيه.

ما الذي حققه موت ريم الرياشي اكثر من يتم طفليها وحرمانهما من أمهما؟ ثم إن آلاف العمال الفلسطينيين يواجهون مهانة فظيعة من جانب الاسرائيليين عند معبر إريتز، حيث ينتظرون ساعات للمرور في طريقهم الى العمل، فهل ساعد تفجير هذه الأم لنفسها اولئك العمال؟ اطلاقا، بل إن اسرائيل اغلقت المعبر وردت اولئك العمال على اعقابهم.

الواقع ان على الفلسطينيين ان يتجاوزا حاجز التردد في انتقاد العمليات الانتحارية، بل عليهم أن يتغلبوا عليه ويبادروا الى التعبير عن رفض هذا التطور المرعب في تكتيكات حماس العسكرية.

صحيح ان ريم ليست اول امرأة فلسطينية تنفذ عملية انتحارية، ولكنها اول امرأة تستخدمها حماس في هذا النوع من العمليات، إذ سبقتها الى ذلك حركة الجهاد الاسلامي عندما ارسلت هنادي جرادات الى حيفا في الرابع من اكتوبر الماضي، حيث فجّرت نفسها في مطعم وقتلت معها من قتلت من اسرائيليين وفلسطينيين ايضا. وللأسف، كانت هنادي أما ايضا.في الماضي كانت الجماعتان تستخدمان الشباب، غير المتزوجين عادة، للعمليات الانتحارية. وهذا التغيير الجديد في التكتيك، هو اخر مظاهر التنافس بين الجماعات العلمانية مثل «كتائب شهداء الاقصى» التابعة لحركة «فتح» والجماعات الاسلامية، مثل «حماس» و«الجهاد الاسلامي». وكانت تلك الجماعات المتنافسة تقليديا تتبنى، في بعض الاحيان، تكتيكات الطرف الاخر، في محاولة لكسب عقول الفلسطينيين وعواطفهم.

ولا يشك احد في ان الاحتلال الاسرائيلي ادى الى اليأس والإحباط داخل المجتمع الفلسطيني. ولكن ـ كما هو الحال في مجتمعات عربية اخرى ـ فإن نجاح البديل الاسلامي في المجتمع الفلسطيني، إنما يقوى بسبب فشل المؤسسات الديمقراطية، بالاضافة الى الفساد وافتقار السلطة الفلسطينية للرؤية.

ان الفلسطينيين بحاجة الى التفكير جديا في تأثير العمليات الانتحارية في طبيعة مجتمعهم. ان قتل المدنيين الابرياء في أي جانب من جانبي الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي خطأ. نعم: يجب إنهاء الاحتلال الاسرائيلي. ونعم: يستحق الفلسطينيون دولة مستقلة. ولكن، يتوجب عليهم ايضا الشعور بالقلق من تكريم الانتحاريين. هل يريد الفلسطينيون حقا تطلع شبابهم نحو الانتحار؟

إني على ثقة بأن الكثيرين من الفلسطينيين يعارضون العمليات الانتحارية، ولكن كثيرين منهم يخشون الاتهام بالخيانة اذا ما افصحوا عن رأيهم، بالإضافة الى الخوف من الانتقام. بيد ان الخشية على مستقبل فلسطين يجب ان تكون اكبر، وهذا هو الوقت المناسب للافصاح عن رأي الكثيرين المعارضين للعمليات الانتحارية. لقد آن الأوان لطرح اسئلة حول الاستغلال الاناني للشبان الفلسطينيين من جانب القادة المتطرفين. وها هم الآن يجندون الامهات ويرسلوهن الى الموت!

من المهم ايضا ملاحظة ان العمليتين الاخيرتين (عملية ريم الرياشي وعملية اياد المصري في نابلس) اثارتا جدلا نادرا بين الفلسطينيين. لقد ادى تجنيد ريم الى يتم طفلين، بينما ادى مقتل اياد الى حرمان اسرة من ابن ثان لها. فقبل اسبوع قتل شقيقه وابن عمه على يد الجنود الاسرائيليين. ووجه اقارب اياد اللوم الى الجماعات المتشددة لتشجيعها الشباب على قتل الآخرين وانفسهم. لقد كان الأمر بالنسبة لعبير، والدة إياد، أصعب مما يمكن تحمله، كما نقلت «اسوشييتدبرس». ففيما كان الجيران وأفراد الاسرة يتدفقون على منزلها يبكون ويصرخون، جلست عبير صامتة، غير قادرة على الكلام، ولا حتى البكاء.

في النهاية، انقل هنا تحذيرا اطلقه، عبر صحيفة «الايام» الفلسطينية، المعلق الفلسطيني حسن البطل، وهو تحذير يستحق الاهتمام فعلا، إذ يقول: «اذا لم تتوفر للمجتمع الشجاعة للافصاح عن رأيه في هذا الموضوع، يمكن عندئذ رؤية أولاد في سن العاشرة ونساء حوامل يفجرون انفسهم»!

حقا، عندما يستهان بأرواح المراهقين والأمهات، أي مستقبل ينتظر المجتمع؟

* كاتبة مصرية مقيمة في نيويورك