بوش يعلن رسميا تخليه عن الفلسطينيين

TT

كان أمراً مفاجئاً بالفعل أن يخلو خطاب الرئيس بوش لحالة الاتحاد من أي إشارة إلى الشرق الأوسط، ماعدا الإشارة إلى القدس في إطار ومعنى مختلفين. لا بل إن هذه الإشارة الغريبة إلى القدس مؤشرٌ لانتهاء التفكير بمرحلة معينة والدخول بمرحلة أخرى تخلّت بموجبها الولايات المتحدة، لهذه السنة الانتخابية على الأقل، عن مسؤولياتها في إحياء عملية السلام أو الحديث عن الدولة الفلسطينية التي وعد الرئيس بوش العالم بإقامتها، أو حتى متابعة خريطة الطريق التي «تبناها» على مرأى العالم ومسمعه.

كما كان أمراً مفاجئاً ألا يذكر الرئيس بوش في خطابه جدار الفصل العنصري الذي وصفه، سابقاً، بأنه عائق في طريق تحقيق السلام، رغم أن محكمة لاهاي بصدد اتخاذ قرار بشأن هذا الجدار، ورغم أن العالم برمته يعتبره عائقاً أكيداً في طريق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية التي «وعد» بها رئيس الولايات المتحدة. كما أن إشارة الرئيس الأميركي إلى القدس أتت ضمن سياق المدن التي استمر القتل بها، أي أنه أخرج ما يجري في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة من إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي وأدخله في إطار الحرب على الإرهاب، وهنا تكمن الخطورة.

هنا تكمن الخطورة بالفعل، لأن هذا يعني أن رئيس الولايات المتحدة، صاحبة المبادرة لعملية السلام، والراعية له على مدى سنوات، والقوة الوحيدة في العالم القادرة على تحريك هذا الصراع على طاولة المفاوضات ومن ثم إلى اتفاقات سلام، قد قررت أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية لا يشكل مشكلة بالنسبة لها وأن ما يسمى «الحرب على الإرهاب» هو الموضوع الوحيد على جدول أعمال الرئيس بالنسبة للشرق الأوسط وأنه يمكن لإسرائيل أن تستمر بامتلاك جميع أسلحة الدمار الشامل، واحتلال أراض عربية، وتهديد أمن العرب، وتدمير منازلهم، وقتل أطفالهم، وطردهم من ديارهم، واستقدام مستوطنين مكانهم بذريعة الحرب على الإرهاب والخوف على أمن إسرائيل، واستباق النوايا بحرب إبادة حقيقية ضد الفلسطينيين لا تبقي ولا تذر، بينما تطلق واشنطن صرخات حول الخطر الذي قد يظهر هنا أو هناك، متغاضية عن أسوأ خطر يهدد شعباً بكامله بمحرقة لا يوازيها في التاريخ إلا المحرقة التي تعرض لها اليهود في أوروبا، مع تجاهل مماثل اليوم للفلسطينيين، كما كان التجاهل لليهود حينئذٍ، والتظاهر أن هذه المشكلة غير موجودة، وصمّ الآذان وكم الأفواه وإغماض العيون عن القتل المنهجي لأطفال فلسطين، وذبح الأمهات، وإذلال أسر الضحايا، وتدمير البيوت، وقلع الأشجار، واعتقال الملايين داخل مدنهم وقراهم.

ومع أن كتاب الخطب ومستشاري الرئيس بوش يوهمونه بأن هذا هو السبيل لكسب الانتخابات، فإنّ الأهم لرئيس الولايات المتحدة هو الإرث التاريخي الذي سوف يتركه للأجيال، عن مواقف هذا البلد حيال جرائم بهذه الخطورة من الناحية السياسية والأخلاقية والإنسانية. إذ هل يريد الرئيس بوش أن يترك للأجيال المقبلة من الأميركيين الشعور بالذنب حيال الفلسطينيين، وهذا ما يشعر به معظمهم اليوم حيال ما حدث إبان الحرب العالمية الثانية؟ وهل يريد لكتب التاريخ أن تسرد أنه كان قادراً على أن ينقذ شعباً من الإبادة لكنه لم يفعل ذلك؟

لقد قال الكاتب البريطاني تيموثي غارتون آش في تعليقه على خطاب الرئيس بوش في جريدة «الغارديان»: «إن هذا الخطاب يترك الشرق الأوسط برمته في حالة فوضى عارمة» وهذا صحيح. ثم تساءل: «من هو أكثر المتضررين مباشرة من هذه الفوضى؟». وأجاب، أنها «أوروبا»، محرضاً إياها ضد «خطر المسلمين» وردود أفعالهم على حرب بوش المعلنة ضد الإرهاب.

والواقع هو أن أكثر المتضررين من حالة الفوضى العارمة هم أبناء وبنات المنطقة ذاتها وهم بالتحديد العرب، الذين اعتاد العالم على تجاهل عذاباتهم إلى درجة تعتبر أنها غير موجودة اليوم. إذ في اليوم الذي ألقى فيه الرئيس خطابه دمرت إسرائيل تسعة وأربعين بيتاً في رفح، وتدمير المنزل ليس مجرد كلمة تقال بل هو استلاب الإنسان من حق المأوى الآمن وحق العيش بكرامة وحق الحياة اللائقة. وفي اليوم ذاته قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي الأمّ منى إسماعيل، وبكاها ابنها أحمد إسماعيل ذو الأعوام العشرة بكاء تحترق لرؤياه الأكباد. كما أن جدار الفصل العنصري «الذي سيدخل التاريخ باعتباره عار القرن الواحد والعشرين» يسبّب مآسي يومية للفلسطينيين تعجز عن وصفها الأقلام. وقبل أيام فقط حذر شارون أعضاء الكنيست الإسرائيلي من أن الدخول في مفاوضات مع سورية يعني في النهاية، التخلي عن الجولان، وكان قد قرر مضاعفة عدد المستوطنين في الجولان السوري المحتل، وسوف يعتبر شارون خطاب الرئيس بوش إطلاقاً كاملاً له للاستمرار في الاحتلال والاستعمار والقتل وهدم البيوت وبناء جدار الفصل العنصري واعتقال وتهجير الفلسطينيين. فما هي «استراتيجية الحرية» التي تحدث عنها الرئيس بوش وكيف يمكن «للحرية» أن تستقيم مع انعدام حق الحياة وحق الكرامة وحق العيش في موطن الآباء والأجداد؟ لقد عرّف الشاعر الإنكليزي بيرسي بيش شيلي الحرية بأنها «رغيف خبز ساخن للجائع ومنزل دافئ لمن يعتريه البرد وأمن حقيقي لمن يشعر بالخوف». وهذه بالذات الحرية التي يتوق إليها الفلسطينيون، أما الاحتلال الإسرائيلي فهو الذي يسلب الفلسطينيين حريتهم وحقوقهم فكيف يمكن تجاهل الاحتلال والعزل العنصري وإطلاق العنان لسياسات شارون في قتل الفلسطينيين يومياً وخلق مآسٍ لا طاقة لبشر بتحملها ثم يتم الحديث عن استراتيجية مقدامة «للحرية» في الشرق الأوسط؟

أما إذا كان القصد هو العراق الذي قال بوش إنه سيكون «نموذجاً» للشرق الأوسط، فإن ما يعانيه الشعب العراقي من انعدام الأمن والمداهمات العشوائية وهدم البيوت والقتل اليومي لكل من يرفع حاجبيه، لا يقدم أنموذجاً يتطلع اليه الآخرون. ثم إلغاء قانون الأسرة في العراق، والذي كان يعتبر أكبر إنجاز للمرأة العراقية، والاختباء وراء ذريعة ضيق الوقت من أجل حرمان الشعب العراقي من حقه في انتخاب حكومة تضع دستوراً للبلاد، في وقت لم يبق مسؤول أميركي إلا وأعلن أن قوات التحالف سوف تبقى في العراق مهما «استغرق ذلك من وقت»!! واليوم نستمع إلى ذريعة عدم «وجود الوقت لإجراء الانتخابات»! لا شك أن الأمم المتحدة قادرة على إجراء الانتخابات في العراق كما أجرتها في بلدان أخرى وبزمن قياسي، ومهما يكن من أمر فإن حق الشعب العراقي بانتخاب حكومته وكتابة دستوره أساسي جداً في الحقوق الديمقراطية للشعوب.

إن المقلق في خطاب الرئيس بوش هو تجاهل السبب الأساسي لكلّ ما يعاني منه العرب، ألا وهو الاحتلال، والتركيز على عبارات لا دلالات لها على أرض الواقع ولا تلامس أي معاناة حقيقية لهذا الشعب. وقد فهم شارون الرسالة فجدد السجن الانفرادي لعضو المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب «مروان البرغوثي» في زنزانة انفرادية لستة اشهر أخرى، لا لذنب ارتكبه سوى أنه يقاوم الاحتلال الإسرائيلي لبلاده. كما رفع شارون من وتيرة هدم البيوت باعتبارها سياسة وأداة للتهجير والتوطين، وكلّ هذا يشير إلى عكس ما تصرح به الولايات المتحدة من سياسات معلنة ضد الاحتلال والاستيطان وضدّ تغيير الواقع في الأراضي المحتلة. وقد أكد العديد من المسؤولين الأميركيين أن رئيس الولايات المتحدة هو الذي يعبّر عن سياسة الولايات المتحدة مهما صرح وتحدث به الآخرون. لقد سلم هذا الخطاب مقاليد الأمور إلى منطق القوة والسلاح وضرب عرض الحائط بحقوق الشعوب والمواثيق الدولية والنظم الأخلاقية والسياسية التي احتكم إليها المتصارعون في الشرق الأوسط.

على العرب اليوم أن يقفوا وقفة جدية مع أنفسهم سواء في العراق أو فلسطين، وأن يعلموا أنهم يواجهون احتلالاً استيطانياً شرساً وحرب إبادة تهدف الى القضاء على هويتهم تحت مسميات مختلفة. فالمرحلة المقبلة هي تغيرات جيوسياسية مرعبة في المنطقة تغيّر وجه وهوية الشرق الأوسط وتسلبه أجمل وأهم مكوناته الحضارية وتفرض عليهم ظلاماً دامساً من الاحتلال والعنصرية. وإذا كان يمكن اختصار خطاب بوش بعبارة فهي أنه «إعلان رسمي عن تخلي الولايات المتحدة والغرب عموماً عن الفلسطينيين والعرب» ووضعهم تحت مظلة القوة الإسرائيلية الغاشمة لترتكب ضدهم جرائم سوف يندى لها تاريخ الغرب وحكوماته «الديمقراطية».

*كاتبة سورية