حملة المفارقات الاقتصادية والسياسية

TT

في وقت يبدو فيه العالم متجها الى مزيد من الاستقطاب الاقتصادي بين الاغنياء والفقراء على خلفية قوة دفع السياستين النقدية والاقتصادية للولايات المتحدة المرتكزتين، حتى الان، على العجزين المتناميين في موازنتها العامة وميزان حسابها الجاري... بات مبررا التساؤل عن قدرة الاقتصاد الاميركي على إدامة ازدهاره القائم على خلل مالي وخلل نقدي متمثل بالدولار الضعيف.

مشاعر القلق الاوروبي من تدهور الدولار خرجت الى العلن في الآونة الاخيرة ولم تكن غائبة عن مداولات منتدى دافوس. ومن غير المستبعد أن يأتي يوم يشعر فيه المستثمرون غير الاميركيين بأنهم يتحولون الى رهائن لسياسة واشنطن النقدية وان استمرارهم في تمويل العجزين الاميركيين لم يعد مجديا في ظل التدهور المتواصل في القيمة الشرائية للدولار... عندئذ ستكون حصيلة هذا الشعورالهرب من الاصول والسندات المقومة بالدولار والمزيد من تدهور سعر صرف العملة الخضراء.

عندها قد يرتد سلاح الدولار الى صدر الاقتصاد الاميركي، على اعتبار أن اي انهيار حاد في سعر صرفه سيحمل بنك الاحتياط الفدرالي على رفع معدلات الفوائد، منهيا بذلك «الاجازة المالية» التي تتمتع بها الشركات الاميركية، والاميركيون عامة، على صعيدي الاقتراض والإنفاق.

وهنا تكمن المفارقة الاقتصادية في حملة الرئيس الاميركي جورج بوش لاعادة انتخابه لولاية ثانية، فهي تنطلق من نهجين متقاطعين، ان لم يكونا متناقضين، لإدارته:

ـ من جهة تسعى إدارته الى تأمين مساعدة عدد واسع من حلفائها في ما تسميه بعملية اعادة اعمار العراق، على أمل اتاحة الفرصة لاعادة جزء من قواتها الى الوطن قبل موعد الانتخابات الرئاسية، ولكنها لا تفعل شيئا لتخفيف الاعباء التجارية والمالية التي يتكبدها حلفاؤها من جراء انهيار سعر الدولار.

ـ ومن جهة ثانية تتطلع الى إطالة مرحلة الازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة - لغاية تاريخ الانتخابات الرئاسية على الاقل ـ وتوفير اعداد متزايدة من فرص العمل للاميركيين... مما يستوجب ابقاء الدولار على ضعفه ان لم يكن الترحيب بانخفاض اضافي لسعره.

نجاح أو فشل واشنطن في التوفيق بين هاتين السياستين المتعارضتين قد يحدد،الى مدى بعيد، فرص عودة الرئيس جورج بوش الى البيت الابيض عام 2005.

الا ان المفارقة الاقتصادية ترافقها أكثر من مفارقة سياسية واحدة مع تحول الشأن الخارجي - وخصوصا احتلال العراق والحرب على الارهاب - الى «قضية» انتخابية بعد تخصيص بوش لجزء وافر من خطاب «حالة الاتحاد» الاخير للدفاع عن انجازاته على الجبهتين معا.

لافت ان يكون المنتصر في الحرب على الارهاب بحاجة الى الدفاع عن انجازاته. ولكن ربط ملاحظته بان «28 شهرا مرت منذ اعتداءات 11 سبتمبر (ايلول)2001 دون ان يقع اي هجوم على الارض الاميركية بتحذيره أن ذلك يجب الا «يغرينا على التفكير بأن الخطر الارهابي أصبح وراءنا» رسالة انتخابية للاميركيين مفادها ان استمرارية الخطر الارهابي تستوجب استمرارية أخرى هي... الادارة الجمهورية التي أصبحت متخصصة في محاربة الارهاب والتي تعتبر، عبر دعوة بوش الى تمديد قانوني مكافحة الارهاب (باتريوت أكت) الذي تنتهي فترة تطبيق بعض مواده بنهاية العام 2005، أن محاربة الارهاب قدر الاميركيين الى أمد غير معروف ومهمة الجمهوريين الى أمد أطول.

إلا ان المفارقة الاخرى على هذا الصعيد تبقى في أن ملاحظة بوش عن انقضاء سنتين بدون اي هجوم جديد «على الارض الاميركية» تتجاهل تطورا ما زال يتفاعل دوليا هو «نقل» الولايات المتحدة جبهة محاربة الارهاب الى افغانستان والعراق... وفشلها في القضاء نهائيا على هذا الخطر، كما تتجاهل اضطرار الادارة الجمهورية الى زج القوات النظامية للدولة الاعظم في العالم في عمليات ملاحقة «بوليسية» للارهابيين في كل من العراق وافغانستان.

والمفارقة الاضافية في ملاحظة بوش عن استراتيجية تطبيق الديمقراطية وتوسيع نطاق الحريات في الشرق الاوسط تجاهلها لمحاولات واشنطن الحثيثة لتأجيل الانتخابات المباشرة في العراق بذرائع واهية أملا في ضمان وصول ادارة مطواعة الى سدة الحكم في بغداد، وتجاهلها ايضا السكوت الرسمي على عودة المتشددين الى تثبيت مواقعهم في النظام الايراني... لحاجة واشنطن الى مساعدتهم في ابقاء شيعة العراق بعيدين عن تطلعات السنة.