الصفقة الكبرى على طريق الصفقة الأكبر

TT

«من صَبرَ ظَفَر»، و«ما ضاع حق وراءه مُطالِب»، و«في التأني السلامة وفي العجلة الندامة». هذه الاقوال ـ الامثلة وغيرها كثير تنطبق على النهاية السعيدة لكوكبة من المناضلين العرب من اجل قضية الأمتين التي لن يهدأ البال ما دامت بمثل الكرة تتقاذفها دول التآمر العالمي. وعندما يتم الاتفاق نهائياً على تبادل رفات ثلاثة جنود اسرائيليين والعقيد رجل الاعمال الحنان تننباوم بالأسرى العرب وعددهم 23 لبنانياً و400 فلسطيني و5 سوريين و3 مغاربة و3 سودانيين وليبي واحد، اضافة الى الالماني «المقاوم المستشرق» ستيفان سمارك الذي اتهمته اسرائيل بالتعامل مع «حزب الله»، واضافة ايضاً الى كشف مصير 24 مفقوداً لبنانياً واعادة رفات 60 لبنانياً قُتلوا خلال معارك مع اسرائيل.. انه عندما يتم الاتفاق المشار اليه ويتحدد الخميس المقبل موعداً للتبادل في فرانكفورت، فهذا إثبات الى مضامين الأقوال ـ الأمثلة التي اوردناها.

في انتظار لحظة التسليم والتسلم يوم الخميس المقبل وقبل يومين من حلول عيد الاضحى المبارك وعودة الأسرى العرب الأبطال الى اوطانهم واهاليهم ومواراة الثرى رفات الذين قضوا في عمليات بطولية املاً في استرداد الحق الفلسطيني يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

اولاً ـ تؤكد النهاية التي تم التوصل اليها ان «حزب الله» حريص على البشر يحررهم او يستعيد رفات من استشهد منهم، بمثل حرص اسرائيل على استعادة أسراها ورفات قتلاها. ومن هنا فإن العملية التي تمت هي توأم عملية تحريرالارض التي احتلها الاسرائيليون في الجنوب. كما انها ستُفضي مستقبلاً الى تحرير مزارع شبعا سِلْماً، الى الانسحاب طوعاً، وبذلك لا يعود هناك موجب للعمليات العسكرية من نوع العملية الاخيرة التي استهدفت جراراً اسرائيلياً تجاوز الحدود. وفي حال حدوث ذلك تصبح النقلة المتوقعة لـ«حزب الله» من حركة مقاومة الى حزب سياسي امراً مبرراً في نظر قيادته ونظر جماهيره ونظر الناس عموماً. وبموجب هذه النقلة يمارس المقاومة السلمية وفق النهج السيستاني السلمي في العراق، والذي اثبت فعاليته بدليل ان آية الله علي السيستاني بات احد الأرقام الأكثر صعوبة في المعادلة العراقية بمحاورها الثلاثة: الدولي. الاقليمي. المحلي.

ثانياً ـ إصرار «حزب الله» على عروبة الصفقة يؤكد عدم انعزال الحزب في الاتجاهين: اللبناني والمذهبي، فهو لم يحصر المطالبة بأسراه الـ23 ولا بالرفات الـ60 ولا بكشف مصير الـ24 المفقودين وإنما ساوى بين اللبنانيين هؤلاء وبين الاربعمائة فلسطيني والخمسة سوريين والثلاثة مغاربة والثلاثة سودانيين والليبي الواحد.. وبذلك أظهر نوعاً من الشهامة كان عدم الأخذ بها سيشكل علامة سيئة في سجله المتخم بالتضحيات. كما ان هذه الشهامة المشار اليها شملت الإصرار على مساواة الأسير الالماني بالأسرى العرب وبذلك يكون موضع تقدير الرأي العام الالماني، اضافة الى انه من غير الجائز ومن غير اللائق ان تكون المانيا هي الوسيط وفرانكفورت هي الساحة التي سيتم التسلم والتسليم فيها ولا يكون الأسير الالماني من ضمن الذين شملتهم الصفقة.

ثالثاً ـ اظهرت النهاية خصالاً في اطراف معنية بالصفقة التي تمت بدءاً بحذاقة المفاوض الالماني، مروراً بحنكة المرجعيتين المهمتين لـ«حزب الله» وهما ايران وسورية وطول اناة الدولة اللبنانية، وصولاً الى قدرة الأمين العام لـ«حزب الله» على ممارسة التكتكة بالبراعة نفسها التي يعالج بها رؤاه الاستراتيجية. وعندما يكون الوسيط الدولي ألمانياً بالذات وليس فرنسياً او واحداً من الاوروبيين المحايدين نسبياً إزاء الصراع العربي- الاسرائيلي، فلأن هناك علاقة قديمة بين بعض ثوريي ايران والمانيا. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الرئيس محمد خاتمي الذي كان في الزمن الثوري الايراني الغابر ملحقاً ثقافياً مقره هامبورغ. ونجد انفسنا هنا نستحضر النصائح التي اسداها الرئيس خاتمي وعلى الملأ لـ«حزب الله» عندما زار لبنان في شأن سلوك المرونة ومراعاة الخصوصية اللبنانية. وهذه النصائح حدثت في وقت كان التفاوض في بداياته بين «حزب الله» والوسيط الالماني الذي رأى نفسه يعالج - على حد قوله - واحدة «من اكثر عواقب الصراع إيلاماً في الشرق الاوسط».

رابعاً ـ من الجائز القول ان الموقف المتأني لـ«حزب الله» في الموضوع العراقي والذي بدا في بعض جوانبه حيادياً ساعد على تشجيع ضمني من الادارة الاميركية للجانب الالماني على تكثيف الجهد التفاوضي وللجانب الاسرائيلي على إبداء التفهم والتقليل من الممانعة والتصلب. ثم جاءت وقائع التصدع في الموقف الداخلي لارييل شارون تضغط في اتجاه التنازل من اجل الحصول على مكاسب. وفي الحسابات الاسرائيلية الداخلية فإن استعادة رفات ثلاثة جنود ورجل الاعمال الجاسوس تننباوم والتعهد بالحصول على «معلومات ذات مغزى» حول مصير الطيار رون اراد مقابل إطلاق «الأسير العقدة» سمير القنطار، من شأنها ان تغطي على الأجواء الحرجة التي يعيشها شارون بسبب فضيحة «الجزيرة اليونانية» التي وصلت تداعياتها الى مشارف المثول امام القضاء والمطالبة بتقديم الاستقالة، فضلاً عن ان هذا الاهتمام بعسكريين وبمصير طيار من شأنه تخفيف نسبة الاحتقانات في نفوس المؤسسة العسكرية الاسرائيلية التي وصلت الى حد تمرد بعض الضباط والطيارين على اوامر الاعتداء على الفلسطينيين.

خامساً ـ هناك عدا الطرف الايراني والطرف السوري اطراف اخرى ليست بعيدة عن الصفقة، وهذه اهميتها في قدرتها على حيازة ثقة «حزب الله» في الدرجة الاولى. ومن هؤلاء الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط الذي كان قطع التكهنات حول غياب غير مألوف وغير طبيعي للسيد حسن نصر الله لمدة طويلة عندما التقى به قبل الإعلان عن انجاز الصفقة بيومين. وليست صدفة زيارة جنبلاط الى المانيا في هذه الايام بالذات.

***

نتوقع في ضوء هذا الحدث الاستثنائي، حدثاً آتياً بعد حين، خلاصته ان الصفقة الكبرى التي تمت ستكون ربما المدخل الى الصفقة الأكبر بين سورية واسرائيل وبالرعاية الأميركية.. والتي ستتضح معالمها في ضوء هل يجدد الرئيس بوش (الابن) الولاية او سيتوارى، او هل من الأفضل ان يبقى لكي يتم إنجاز الصفقة الأكبر؟