.. ولماذا لـ «حزب الله» وليس لمحمود عباس؟

TT

استعجل شارون إبرام اتفاق التبادل مع «حزب الله»، لعله بذلك ينقل الحديث الاسرائيلي عن فساده الى مجال آخر. وشاهد الفلسطينيون الشيخ حسن نصر الله يعرض بهدوئه المعتاد ولباقته اللافتة، (التي يفتقدها معظم وزراء الخارجية العرب)، بنود الاتفاق، مؤكدا على ان الافراج عن اربعمائة أسير فلسطيني، اضافة الى اللبنانيين والعرب، ما هو الا مرحلة أولى ستتلوها مرحلة أهم. وبالتأكيد تتضمن عددا اكبر من الافراجات.

ويتساءل الفلسطينيون، وهم يحتفلون باستقبال المئات من أبنائهم المحررين، ويستعدون لاستقبال اضعافهم في المرحلة التالية. من الذي حقق لهم بعض ما يريدون؟ حزب الله «المدان اسرائيليا بالارهاب»، أم أبو مازن، رجل السلام والتفاهم والحل، عبر خريطة الطريق والمفاوضات؟

وحين يتساءل الفلسطينيون على هذا النحو، فانهم يكونون قبل ذلك، قد استعرضوا حكاية الأسرى والمعتقلين مع حكومة أبو مازن. وخلاصة هذه الحكاية ان شارون لم يعطِ «رجل السلام» ما يعينه على مواصلة رحلة السلام، ولم يعطه ما دام لا يملك أسرى وجثثاً، وما الى ذلك من الأمور الهامة عند الاسرائيليين.

* الدفرسوار

* لمع نجم شارون، حين أدى اكبر عملية اختراق على الجبهة المصرية في حرب أكتوبر 1973. ودخل منتدى أبطال اسرائيل منذ تلك الثغرة، التي لم نصدق السادات حين وصفها بـ«الاستعراض التلفزيوني» عديم الاهمية الاستراتيجية وحتى «التكتيكية».

وبصرف النظر، عن استثماره المبالغ فيه لهذه الثغرة، ووضعها في سجله العسكري كمعجزة يستحق فاعلها ان يتحول الى ذخر استراتيجي يعبده الاسرائيليون ويلوذون به وقت الشدة. بصرف النظر عن ذلك كله، الا ان التاريخ اودع انجاز شارون مكتبات الكليات العسكرية، وسجل حقيقة بالغة القوة والسطوع، ملخصها ان مصر وبعد اشهر استعادت ارض «الثغرة»، وبعد اشهر اخرى استعادت كل سيناء.

وبعد سنوات من اغلاق الملف العسكري بين مصر واسرائيل، ولم تكن الفجوة الزمنية واسعة الى حد ما، قام «الجنرال المميز» باجتياح جنوب لبنان.

كان المسموح به اسرائيليا وأميركيا، آنذاك، هو التوغل الى عمق لا يتجاوز خمسة واربعين كيلومترا، غير أن صاحب الثغرة لم يقاوم إغراء قوة النار المتوفرة لديه، فغير الخريطة، ومد حدود الجنوب الى حافة بحر بيروت.

لقد خسر شارون كثيرا في هذه الحرب، خسر جنودا وجنرالات، آليات وطائرات. غير انه ابتدع نصرا حين اغلق ملف القتال بخروج احتفالي لأبطال الصمود في بيروت، على متن سفن توجهت الى مناف جديدة. وبعد ذلك بقليل جاءت الخسارة الأخلاقية الكبرى، حين لم تنجح المليشيات المتعاونة مع إسرائيل في لبنان، باتقان التمويه على دوره في مذابح صبرا وشاتيلا.

منذ تلك الايام وحتى الإعلان عن صفقة التبادل الاخيرة، جرت على ارض لبنان وقائع واحداث شديدة السخونة أفضت، في نهاية المطاف، الى الحقيقة التالية: لقد علقت اسرائيل في الصنارة اللبنانية، حتى الآن، ونقلت ياسر عرفات من المنفى الى الوطن، بعد ان هيأت له استبدال جغرافيا القتال مع اسرائيل، بجغرافيات الحل السياسي معها. بمعنى ان شارون، الذي سجل دفرسوار آخر في لبنان، باخراج ياسر عرفات ورجاله تحت ضغط النار والخذلان العربي، رأى عرفات بعد سنوات قليلة في رام الله، أي على بعد غمرة من القدس.

بالتأكيد، ليس شارون وحده هو المسؤول عن كل ما حدث خلال عقدين من الحرب على اللبنانيين والفلسطينيين، وثلاثة عقود من التحييد المطلق للقوة العسكرية العربية في «الصراع المصيري»، انها اسرائيل بمحصلة وعيها وسلوكها، واعتباراتها الخاصة غير المفهومة حتى من اقرب حلفائها واصدقائها.

انها تلك السياسة التي سجنت نفسها وراء قضبان فائض القوة، يفضي الى مزيد من الحرب وقليل من السياسة والأمن.

بعودتنا الى خلاصات حملات شارون العسكرية عبر ثلاثة عقود من الزمن، لا بد ان نعيد تظهير الصور من جديد، لكي نرى الواقع الراهن على حقيقته، خاصة ان شارون لم يعد مجرد قائد عسكري ماهر او مقامر، فهو رئيس وزراء اسرائيل، ليس ذلك فقط، وانما الحاكم المطلق لها، والمتحكم الجوهري في قراراتها.

ان شارون الذي ابرم اتفاق التبادل مع حزب الله يقدم للفلسطينيين والسوريين والعرب، كلٍ على حدة او مجتمعين ما يلي:

ـ جداراً وعقداً عسكرية واستيطانية تجعل قيام دولة فلسطينية، بالحد الأدنى، من السيادة والترابط أمرا مستحيلا.

ـ وللسوريين، قبولاً بوساطة تركية استبقها بتصريحات امام لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست، قال فيها من جملة ما قال: «ان المفاوضات مع سوريا لا تعني الانسحاب من الجولان، ولماذا ننسحب ما دامت سوريا ضعفت».

ولعل معادلة القوة والضعف بالنسبة لسوريا، كما يراها شارون، تُختصر بوجود القوات الأميركية على حدودها، وكأن شارون يدخل كل هذا الجبروت الأميركي في لعبة تكتيكية على طريقة:

هذا ابن عمي في العراق خليفة

لو شئت ساقكم إلي قطينا.

وللعرب، يقدم شارون رفضأً لمبادرة القمة، لماذا؟ لأن الأمير عبد الله بن عبد العزيز، غير جاهز لابداء حسن النوايا بالقدوم الى إسرائيل، او على الاقل، استقبال أي من قادة اسرائيل في السعودية.

هذه هي صورة الوضع الراهن، وهذا ما يراه شارون. السياسة الامثل في التعامل مع الفلسطينيين والسوريين والعرب. واذا كنا نألم كثيرا للحرب الشرسة والمتمادية التي يعاني منها كل الفلسطينيين على السواء، ونشعر بالأسى لابتعاد فرص الحل السياسي التي انفتحت في وقت ما، لتغلق بإحكام أكثر فيما بعد، الا اننا كفلسطينيين لا نرى أي امل في التعايش مع سياسة شارون وحلوله المقترحة. وذلك لا يعني أننا سنطلّق السياسة ونتراجع عن رغبتنا، بل ويقيننا بحقيقة أن الحل السياسي هو هدفنا، والحل السياسي هو.. ما منحته لنا الشرعية الدولية، لا اكثر ولا اقل.

وإذا كان أشقاؤنا السوريون، عبر محادثات سرية او علنية، ومن خلال وساطة تركية أو غيرها، يظهرون رغبة متحمسة للمفاوضات «ولا يعيبهم انهم قرأوا جيدا معادلة القوى بعد غزو العراق»، فان مقايضة شارون، بالتخلي عن الجولان ـ لقاء رفع التهديد العسكري عنهم ـ فيها من الطيش وسطحية الرؤية اكثر مما فيها من السياسة والمناورات التفاوضية..

لقد رفضت سوريا التخلي عن امتار على حافة البحيرة لقاء استرجاع كل الأرض التي احتلت عام 1967، فكيف تقبل بما هو من دون ذلك؟ على الاقل كي لا يقال لماذا ضيعتم الفرصة، وعلى حساب منْ كل هذه السنوات من الاحتلال والاستثمار الاسرائيلي المربح في الجولان!

أما العرب الذين سيلتقون قريبا على مستوى القمة في تونس، ومع انهم سيجددون مبادرة بيروت، الا انهم سيفجعون بطريقة شارون في التعامل معهم، وهي الاغلاق لأسباب توراتية ربما.

حين تكون صورة الوضع الراهن على هذا النحو فلسطينيا وسوريا وعربيا، فلا مناص من مخاطبة ذاكرة شارون والاستعانة بها لاثبات معادلات بديهية، مفادها

«لا أمل في محاولة ادخال الجمل في ثقب الابرة». أي لا أمل لشارون في ان يفرض ما يريد، حتى لو أغراه البحر المحيط بسباحة سهلة.

* وزير فلسطيني سابق