ماذا تشاهد؟

TT

في السبعينات كانت «سي. بي. اس» الاميركية تقدم مسلسلاً فكاهياً اسمه «كل شيء ضمن العائلة». وكنت اتابع حلقاته كل اسبوع، اولاً لاعجابي بقدرة الممثل كونور اوكونور، وثانيا لأن المواقف المضحكة التي يطرحها البرنامج مستوحاة من الحياة اليومية لأي طبقة متوسطة في اي مكان في العالم. كان اشخاص المسلسل اربعة: الأب والأم وابنتهما وزوجها العاطل عن العمل الذي يعيش في البيت نفسه في حي كوينز النيويوركي. وعندما تركنا كندا الى بريطانيا اواخر السبعينات تعلقت بثلاثة مسلسلات فكاهية، واحد منها عن المتطوعين ايام الحرب، والثاني عن مجموعة عجائز اشقياء في الريف، والثالث عن فندق ريفي صاحبه رجل ضعيف وزوجة قوية.

اخجل ان اقول ان ذلك آخر عهدي بالفكاهة التلفزيونية، ففي البرامج التي تلت سادت لغة ومفردات قبيحة لا اراها مضحكة على الاطلاق. فالبذاءة لا تضحك، خصوصاً اذا اصبحت قاعدة او شرطاً. وفظاظة اللغة، بدل التلميح الذكي، ثقل لا خفة ظل. وكلما دخل التلفزيون في «جرأة» او «واقعية» جديدة، اتساءل، وماذا بعد؟ وأين ستكون النهاية؟ وعندما تنتقل الكاميرا الى الحمامات والمراحيض وغرفة الملابس، اسأل نفسي الى اين ستحملنا الواقعية من هنا، وماذا سيفعل بنا المخرجون والمنتجون والمروجون؟ ومن سيظل يرسم الفرق بين الفن والانحطاط، وبين الهزل والسوقية، وبين النقد الاجتماعي وقلة الاخلاق، وبين الجرأة والقباحة، وبين بديع خيري والريحاني و«شوشو» حسن علاء الدين، وهذا السقط غير الممتنع الذي بلينا به، بسبب «مبدأ» الربح الذي يبيح كل شيء.

هل من الصعب ان يحقق التلفزيون ربحاً من دون مسايرة لغة العصر ولسان الزمان؟ لا. والامثلة كثيرة، لعل ابرزها «من سيربح المليون» الذي اطلق نجومية جورج قرداحي. واضحك الفنان الاردني نبيل صوالحة العرب من دون الاضطرار الى كلمة جارحة واحدة. وثمة اعجاب واسع بأعمال ياسر العظمة والهنيدي من دون اي خروج على الآداب. وضحك العرب ولا يزالون لما قدّم سعيد صالح وسمير غانم وعادل امام الذي قرر ان يخرج من افلام الكوميديا ومسرحها لكي يلعب ادوار الفرسان والملاكمين ويضع «بيروكات» الشعر الطويل التي اقامت زمنا ما بين بعض اعماله الحالية وبين تحفة «شاهد ما شافش حاجة».

لعبت التلفزيونات اللبنانية، للأسف، دوراً في استرخاء الضوابط. وجعلت للعمل التلفزيوني صورة حاول الآخرون تقليدها او بالأحرى احتذاءها. ولعب التلفزيون السياسي دوراً في ارخاء الضوابط الخلقية ومط قواعدها وارخى قيود واصول الحوار والنقاش والمساءلة، واطلق ثقافة الشتم واحتقار الرأي الآخر وتسفيه صاحبه. واطلق على الشاشة الحق في الشتم والحاق الضرر وتسعير حملات البذاءة والتحريض تحت شعار الحرية.

وعندما نستعرض ماذا فعل التلفزيون في بيوتنا نشعر بالخوف. ويبقى لنا العوض في بعض الراقين، هنا وهناك. كما يبقى لنا شيء من الامل، بأنها مجرد موجة عابرة قبل العودة الى الرشد، او على الاقل الى الخلق.