فرنسا والحجاب

TT

لا بد عند النظر الى مقترح منع الرموز الدينية كالحجاب الاسلامي والصليب والقلنسوة اليهودية في المدارس الحكومية الفرنسية، عند بداية العام الدراسي الجديد في شهر سبتمبر المقبل، ان نأخذ بعين الاعتبار مسألتين، الاولى المآسي الدينية في التاريخ الفرنسي، والثانية مدى اندماج المهاجرين في مجتمعهم الجديد.

لا يتخيل المرء كم كانت الثورة الفرنسية ضد الملك والكنيسة مروعة، فقد اجتثت الثورة سطوة الكنيسة، العائق الاكبر امام النهضة والتنوير، وحصرتها في زاوية ضيقة، وفصلت الدين عن الدولة في 9 ديسمبر 1905 بموجب قرار من البرلمان الفرنسي، وسمحت بالطلاق بعد ان كان ممنوعا، ومنعت التعاليم الدينية في مدارس الدولة، لكن الدولة وفرت للكنائس مباني تقيم فيها شعائرها، وسمحت الحكومة في العشرينات من القرن العشرين بانشاء مسجد باريس، ولكن على الجميع الالتزام بالقوانين الجديدة، فلا تسعى الكنائس للهيمنة على امور الدولة او تصبغ صورتها وفق غاياتها الدينية، في مقابل الا تتدخل الدولة في الشؤون الدينية.

لقد كانت معظم الاديان على صراع، او حرب، مع الدولة الفرنسية، فالبروتستنت قتلوا في مذبحة القسيس بارثيليمي عام 1572، وذُبح الكاثوليك او أعدموا بعد الثورة الفرنسية لأنهم اعداء لحركة التنوير، وطرد اليهود في العصور الوسطى ومنعوا من دخول الاراضي الفرنسية سنوات طويلة، وحتى لا تتكرر المآسي الدينية التي يحفل بها التاريخ الفرنسي قوضت الدولة نفوذ هذه الاديان وعزلتها عن الجسم السياسي الفرنسي لصالح النظام السياسي والاجتماعي. اما الاسلام فيعتبر هنا كالوافد الجديد، اذا صح التعبير.

هذا الماضي المضطرب هو ما يدعو الفرنسيين الى تأييد الفكر العلماني Laicite بوصفه الضامن الوحيد لحفظ الامن داخل بلادهم، وهم يعتبرون فرنسا كقارب متوازن الحمل من الاديان المعقدة، وهذا القارب قد يختل توازنه بمجرد وصول راكب مثير للجدل وهو الاسلام المعاصر.

الاسلام بمطالبه العصرية الدينية والثقافية يعتبر مشكلة للدولة الفرنسية، فهو دين بين ثقافات متعددة ويتمتع بفرص تفضيلية لاثبات ذاته بين الاديان الاخرى، وهو ما يثير قلق الحكومة والمجتمع الفرنسي.

ولأن الدين والسياسة في الاسلام يرتبط كل منهما بالآخر، لذلك يخشى العديد من رجال الدولة واليهود والمسيحيين من ان «حصان طروادة مسلم» قد اندس بطريقة ماهرة داخل فرنسا، وان هذا الانفتاح الديني قد يخلق مشاكل لا حصر لها.

نأتي الآن الى المسألة الثانية وهي مدى اندماج المهاجرين بالمجتمع الفرنسي، فالمجتمع متعدد الثقافات قد يبدو غنيا بعلومه للوهلة الاولى، ولكن من الناحية العملية قد يجلب نتائج نفسية وسياسية كثيرة، ولنأخذ مثالا على ذلك هجرة الاجانب الى امريكا قبل وبعد حرب فيتنام، فقبل نشوب هذه الحرب كانت الوظيفة الرئيسية لمدارس الحكومة الامريكية هي «امركة الاجانب».

لأن هذا الاندماج كان ضروريا من اجل الوحدة الوطنية، واثناء الحرب اختلفت نظرة المهاجرين وثقتهم بالمجتمع الامريكي وسياسة بلاده ازاء فيتنام، وبعد انتهاء الحرب لم تعد امريكا تطلب منهم الاندماج الثقافي فأصبح للمهاجرين هويتهم او ولاؤهم المزدوج لامريكا ولبلدانهم الاصلية.

فرنسا على عكس الولايات المتحدة ترفض المجتمع المتعدد الثقافات لأن الفرنسيين يفتخرون بقوة ثقافتهم، لذلك تلح فرنسا على المهاجرين اليها بالاندماج في المجتمع الفرنسي، ففرنسا تمر الآن بنفس الفترة الاميركية لما قبل حرب فيتنام، فالنظام المدرسي الحكومي يقوم بوظيفة دمج الطلاب من شرق اوروبا وبولندا واليهود والباسك والبرتغال وفيتنام وافريقيا..الخ.

في الثقافة الفرنسية، الا ان هذه الآلية لا تعمل للطلبة المسلمين من الجزائر والمغرب وتونس لأن لهم ثقافتهم الخاصة بهم.

وهناك الفرنسيات المسلمات اللاتي يبحثن عن هوية لهن، ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001 ازداد خوف الحكومة الفرنسية من قيام التطرف الاسلامي بتجنيدهن لصالحه، ففي فرنسا نحو 5 ملايين مسلم والاسلام هو الدين الثاني في البلاد.

المجتمع الفرنسي يؤيد منع الحجاب بنسبة %69 والمسألة احدثت انقساما لدى النساء المسلمات، ففي استطلاع اجرته مجلة Elle الفرنسية تبين ان %49 منهن يؤيدن مقترح منع الحجاب مقابل %43 ضده، وحدث خلاف مماثل في «المجلس الفرنسي للدين الاسلامي» الذي انشأته الحكومة الفرنسية في العام الماضي لكي يكون الناطق باسم المسلمين، والقضية كذلك لها بعدها السياسي مع اقتراب الانتخابات الاقليمية في مارس القادم، فحزب الجبهة الوطنية يؤيد منع الحجاب، وبالتالي سوف يجذب اليه اصوات بعض المسلمين، وعليه قد تنقسم اصوات المسلمين نتيجة لذلك.

تقول المؤرخة والمستشارة السابقة للمجلس الاوروبي ديانا بينتو عند خطابها عن مستقبل فرنسا في منتصف شهر ديسمبر الماضي «لم يكن الرئيس شيراك ينتقص من الاسلام ـ بوصفه الدين الثاني في فرنسا ـ وانما كان يلعب بلعب Rubik"s Cabe ذات المكعبات الملونة على المستوى الديني، بمعنى انه اذا حرك احد مكعبات طرف اللعبة فإنه يخاطر بتغيير هندسة جميع الاطراف الاخرى، وبعبارة اخرى فإنه يريد ان يتخلص من شبح الماضي الاليم في التاريخ الفرنسي».

ويقول الكاتب الفرنسي آلان غريش «هل حقا تهدد مجموعة قليلة من الصبيات يلبسن الحجاب في المدارس استقرار الجمهورية؟ لا شك ان عدم المساواة الاجتماعية، والتمييز، والبطالة هي التهديدات الاكثر خطورة».

وهكذا تعيش فرنسا بين ذكريات التاريخ الفرنسي المؤلمة ورغبتها في دمج المهاجرين في ثقافتها التي تفتخر بها من دون رموز دينية كالحجاب والصليب والقلنسوة اليهودية، والخوف من وهم التطرف الاسلامي لا سيما ان وجود الخمسة ملايين مسلم قد وّلد ضغوطا معقدة على المجتمع، فإما ان تمارس ضدهم العنصرية او ان تكون بعض مواقفهم متطرفة ضد الآخرين.

فهل تفرض فرنسا قانون منع هذه الرموز عند بداية العام الدراسي الجديد؟