الغزالة أم الحصان..؟

TT

حصل عندي تشوه مهني كما يبدو فقد صرت أصاب بالحرج من المقاربات التراثية في غير أيام الجمع لكن ماذا أفعل هذا الصباح وانا ضائع ومقسم بين الغزالة والحصان ومحاصر بين ثلج خارج النافذة وغيظ محتدم داخلها حيث انا وذاك الغيظ المكثف العنيد الذي يزداد اضطراما حين أذكر الغزالة ويهدأ ويروق قليلا حين استعرض مع نفسي تفاصيل حكاية الحصان وصاحب الحصان.

وكي نختم بالاحصنة لا بد من نبدأ بالغزلان فهناك أسطورة آسيوية من بورما ملخصها ان غزالة كانت ترتع هانئة بالغابة الى ان أحست ذات يوم بقدوم الصيادين فاختبأت تحت كرمة معرشة كانت تلجأ اليها دوما في مثل تلك الظروف لكنها في ذلك اليوم بالذات كانت جائعة فجلست في عزلتها تهدئ جوعها بالاوراق الخضراء النضرة التي تتدلى فوق رأسها لتحميها من العيون ولم يكن الصيادون قد ابتعدوا فسمع أحدهم خشخشة الاوراق وقال لرفاقه لابد ان طريدة تختبئ داخلها فالتفتوا جميعا نحو الشجرة وأطلقوا سهامهم باتجاه الغزالة المختبئة التي ما لبثت ان سقطت مضرجة بدمائها لكنها ـ على ذمة صانع

تلك الاسطورة الحزينة ـ تحسرت و قالت قبل ان تموت:

ـ هذا جزاء من يسيء الى الاوراق التي تحميه ولا بد انهم ابرياء حتى الثمالة هؤلاء الذين افترضوا ان كل يد تمتد بسوء الى من أحسن اليها يصيبها الشر العاجل وتنال جزاءها على الفور ومن يلومهم؟ فهم صناع عصر الاساطير حين كانت الغزلان تنطق والاشجار تمشي والالهة الوثنية شرقا وغربا تتدخل فورا كالمحاكم التنفيذية لتكافئ المحسن وتوقع العقوبة بالشريرالمسيء ناكر المعروف والجميل.

هؤلاء لم يعيشوا في زمن مثل زماننا حيث لا ينجح في دروب المناصب القائمة على الفتك والنحر وتنجير الخوازيق والزنب الا أولئك الذين يدوسون على كل القيم وينتهكون أبسط البديهيات الاخلاقية فأولئك ـ وهم ليسو قلة ـ يعضون كل الايدي التي أمتدت اليهم في رحلة صعودهم ولا يتركون ورقة خضراء دون ان يقضموها ولا لونا جميلا دون ان يشوهوه لذا لا يلتفتون الى الخلف ابدا لأنهم ان التفتوا لاحصاء المحسنين اليهم من ضحاياهم فسوف يجدون في صحراء خرابهم المديدة تلالا من الجثث التي لا ذنب لأصحابها الا رفضهم العمل بالمثل القائل: «أتق شر من أحسنت اليه» فصائغ هذا المثل الشعبي كما يبدو من اختراعه انسان يظل مهما تسربل بالخبرة وتمسح بالخبرة شريرا بالفطرة الا تراه يحذر سلفا من عمل الخير ومساعدة الغير.؟ بل ويحذرك ان فعلت بالويل والثبور.

وقبل ان ينتقل غيظي اليك من وفرة هذه النماذج الخسيسة في مجتمعاتنا دعنا نتمسك بذيل حر أو بذيل حصان أصيل فالاحرار كالاحصنة الاصيلة تحرس فرسانها وقيمها واصدقاءها وأنسابها وتتمسك وان خسرت بأخلاقياتها الرفيعة لذا لم يخطئ من قال:

تمسك ان ظفرت بذيل حر

فان الحر في الدنيا قليل

وما دامت قد جاءت سيرة الاحرار والاحصنة ففي أخبار العرب حكاية لا يصيبني الملل من التذكير بها فقد قيل ان اعرابيا طيبا كان يقطع الصحراء بحصانه فشاهد وهو يغذ السير، ضائعا مقطوعا يوشك على الموت جوعا وعطشا في تلك الصحراء القاتلة فنزل وأطعمه وسقاه وجلس معه الى ان استعاد قواه ثم أردفه خلفه على الحصان لنقله الى بداية العمران.

وقبل ان يجتاز اللقيط الضائع وصاحب الحصان الصحراء ليصلا الى المناطق المأهولة بالسكان توقفا لاستراحة قصيرة وبينما انهمك صاحب الحصان باشعال النار وتحضير القهوة والطعام قفز اللقيط الى ظهر الحصان ووقف فرحا على مسافة من صاحبه استعدادا للانطلاق وحده بغنيمته وقبل ان يولي الادبار هاربا مبتعدا قال له صانع المعروف الذي أنقذه من موت محقق بكل أريحية النبلاء والفرسان:

ـ الحصان لك بارك الله لك فيه لكن بالله عليك لا تخبر أحدا بصنيعي معك ولا بصنيعك معي فاني أخشى ان شاعت هذه القصة وعرفها القاصي والداني ان تضيع المروءة بين العربان.