تعريب الثورة الأميركية

TT

كان الدكتور ثروت عكاشة احد الضباط الاحرار ووزيرا للثقافة في عهد الرئيس عبد الناصر. ويروي انه بعد تثبيت الرئيس الراحل في الحكم، جمع الوزراء وقال لهم، ان القرارات السياسية هي للرئيس وحده، وان كل ما لهم ان يفعلوه، هو ادارة شؤون وزاراتهم. وتفسير ذلك ان الرأي والمشورة والنقاش لم تغب فقط عن مجلس الأمة بل حتى عن مجلس الوزراء. وظهر في مصر يومها شيء سمي «مراكز القوي»، في اليسار وفي اليمين، واكثرها مرتبط بمصادر خارجية كالاتحاد السوفياتي، او بالقوات المسلحة نفسها، كما كان وضع المشير عامر.

ادت سياسة التفرد في السياسة والاقتصاد والعمل العسكري، الى ما ادت اليه. ويصف الدكتور عكاشة تلك المرحلة من «ثنائية الوجدان» بالقول انه اخذ يتأرجح بين «الشك واليقين، وهو ما لا يكون الا مع صحوة الضمير والاستغراق في التفكير ومحاسبة الذات على سلبيات نظام الحكم الذي انتمي اليه ، وقد كان معها القهر والتنكيل وتحريك الناس كما يعالج الزبل بالمذراة، لم يؤخذ لي فيها برأي كما لم يكن بوسعي دفعها».

للناس في اسلوب الحكم ما تشاء من رأي ولا يهمني كثيراً ان يسمى الحكم العادل ديمقراطية او وسطية او انسانية او اي شيء آخر، لكن امامنا جميعاً هذه اللائحة باسماء دول العالم. كل ما علينا ان نفعله هو ان نقسم العالم الى قسمين ثم نختار بينهما بكل هدوء وراحة ضمير ووفقاً لمقاييس الكرامة البشرية في ابسط قواعدها واكثرها بداهة. وارجو من 600 محام اردني الا يدخلوا في هذا الاختيار الطوعي، لكي يصرفوا كل جهودهم الانسانية الرفيعة في اعداد مرافعة الدفاع عن الرئيس العراقي السابق. واعتذر عن عدم استخدام كلمة مخلوع او بائد او كلاب ضالة او كلاب شاردة، ثم اعتذر.

لا اعتقد ان سجل الثورة الايرانية في عالم الحريات، يبعث على الفرح. ولا يستطيع احد ان ينسى عشرات الكّتاب والفنانين والصحافيين الايرانيين الذين قتلوا او دفنوا في السجون. لكن التجربة الاهم في الثورة كانت فتح الباب امام انتخابات نزيهة وصادقة، برغم انها اقتصرت على صف واحد من المرشحين. وادى ذلك مع الوقت الى قيام حركة اصلاحية واسعة تسير خلف الرئيس محمد خاتمي الذي اقترعت له اكثرية كبرى. وافاد خاتمي من حرية الخيار ليس فقط لدعم رئاسته بل من اجل تغيير ميزان القوى في البرلمان. فقد اتضح خيار الشعب الايراني مرة بعد مرة، وتجربة بعد امتحان. وبسبب خسارته في ذلك الامتحان يريد الفريق الآخر الآن اللجوء الى الحل الوحيد الممكن، وهو الغاء حرية الخيار ومنع المرشحين من الوصول الى مرحلة الاقتراع. وهذا شكل جديد من اشكال مسخ الديمقراطية وسلب القرار، فحرية الخيار هي اول الشروط. وكذلك توسيع دائرته، وكذلك توسيع قاعدته. واذا جرد الرئيس خاتمي من الدعم البرلماني فلن يبقى له الكثير في اجهزة الدولة. والمؤسف ان ايران منقسمة منذ وصول خاتمي الى قسمين: فريق يملك الاكثرية الشعبية ولا يملك الحكم ولا السلطة، وفريق آخر يملك مراكز القوى وادوات الضغط ووسائل القمع.

هذا الواقع قائم منذ سنوات، بل هو قائم منذ ان كان السيد هاشمي رفسنجاني هو ممثل القوى الاكثر اعتدالا او انفتاحا. والافضل للجميع الا تتجه القوى السياسية الايرانية نحو التصادم. فلا طهران تحتمل ذلك في هذه المرحلة ولا المنطقة. والحل الأمثل هو الاحتكام الى ابسط القواعد والاصول. فإن عملية فرض المرشحين ومنع مرشحين من خوض المعركة لمجرد الاستنساب، هو تعريب كامل للثورة التي تجنبت حتى الآن الفكرة العربية عن الخيار والمشاركة والحريات.