ضربة حظ

TT

مهما جد المثابر في أية مهنة كانت، فان صاحب الحظ يسبقه دون مثابرة فالحياة مليئة بالصدف التي تسعد بشرا وتشقي آخرين، وهذا لا علاقة له بالنجابة في تلقي العلوم الاكاديمية او النجاح في مدرسة الحياة العملية، فتلك قصة أخرى تقوم على الاستعداد النفسي أما الحظ فصاعقة مباركة تختارك من بين الجميع لتعطيك ما لم تتعب في تحصيله وربما لم تحلم به في أفضل تجليات ساعات النوم واليقظة واحلامهما.

والعمل الابداعي الذي يقوم على الموهبة ـ خصوصا الشعري ـ لا يشذ عن هذا السياق، فله هو الآخر حظوظه ونحوسه وان اختلفت الاسماء فلحظة الكشف الخيالي التي تعطي النصوص عمقها ورؤاها ضربة حظ تختار شاعرا دون آخر وغالبا ما يتلقاها الاكثر استعدادا لها من بين المبدعين والموهوبين.

في تلك اللحظة بالذات تتراسل الحواس ويختلط العلم بالادب والبصر بالبصيرة والصحو بالنوم وتولد تلك النصوص العجيبة التي لا يستطيع حتى أصحابها ان يفسروا ولادتها على ذلك الشكل العجيب والمفاجئ.

ولعل مصطلح ضربة حظ هنا فيه بعض المبالغة ـ والقليل من الابتذال المعرفي- فلحظات الكشف الخيالي الخلابة تأتي للمبدعين بعد تفكير عميق ومن خلال ثقافة رفيعة وبعد تجارب روحية وحسية مثيرة تتراكم وتختلط وتتلاقح وتختار لحظة ولادتها بنفسها فيكون المبدع في تلك الحالة التي يستعصي تفسيرها بمثابة الرحم الحاضن لمشاعره ومشاعر الذات الجماعية التي تعشش في مختلف طبقات الوعي.

ابن عربي اختار لتلك اللحظة اسم (علم الرمية) ولاحقا اقترضها منه رامبو في تطويراته الخلابة لعملية الخلق الابداعي غير المفهوم من خلال ملكة تراسل الحواس التي تأتي من خلالها معظم الكشوف الروحية والظاهر ان ذلك الشاعر الفذ بدأ يدرب نفسه ومخيلته على الغرائب فهو القائل «رضت نفسي على الوهم فكنت أرى مسجدا مكان مصنع وكائنات نورانية تضرب على الدفوف والمزاهر وصالونا في قاع بحيرة ولم لا أقوم بأكثر من شرح لأضاليلي بأوهام الكلمات» ولم يكن مالارميه طبعا بعيدا عن هذه المنطقة فهو والشعراء الرمزيون من أسياد هذه الحفريات الممتعة في دهاليز النفس والمخيلة.

وقبلهما في بريطانيا زعم كوليردج انه كتب قصيد ة «قوبلاي خان» وهو نائم وحين أفاق لم يعدل فيها الا بضعة أشطر، وهذه قصة تسمعها من شعراء كثيرين لاهم بشهرته ولا بطول قامته الفنية ويجب ان تصدقهم فهذه أشياء تحصل في ساحة الابداع شرقا وغربا فمن عجائب الشعر تحديدا انه لا يأتيك حين تريد بل حين يقرر حضرته أن يأتي فالشاعر الذي يحضر ورقة وقلما ويجلس الى مكتبه لينجز القصيدة بتوقيته واختياره لا يكتبها ابدا وإن فعل فغالبا ما تأتي مبتورة أو مشوهة أو مجرد صف كلام من ذلك النوع الذي تراه بغزارة عند أصحاب السيلان الشعري. وهناك الناقد الكبير المؤثر ايه ايه ريتشاردز الذي حاول ان يعترض على الهالة التي يخلقها الشعراء حول أنفسهم وابداعهم فزعم في كتابه الرائد «مبادئ النقد الادبي» ان كتابة القصيدة عملية عادية مثل غسل الوجه في الصباح وكان بهذا التبسيط المخل لا يقصد ان ينزل بالقصيدة من عليائها انما يريد ان يسلب الشعراء حكاياتهم المفضلة عن انتظار وحيهم ومخاطبة جن وادي عبقر، ففي النهاية لا جن هناك ولا هم يحزنون انما عمل شاق متواصل يصقل ما تأتي به الموهبة.

والآن وبعد قرن ونيف من ريتشاردزما يزال حضور القصيدة أصعب من غسل الوجه في الصباح، فهي وإن بدت تلقائية سلسة منسابة يظل خلف كواليسها جهد عظيم وعمل خفي وطاقة روحية تستحضر ما لا يستحضر في الظروف العادية وعند الانسان العادي.

ألم يقل ييتس ذات مرة كاشفا سر تلك التلقائية ـ المصطنعة: «قد تأخذ القصيدة زمنا طويلا وتكون ولادتها احيانا أصعب من خلع الاضراس لكن ان لم يبد كل شيء طبيعيا وتلقائيا وكأنه ابن ساعته فكل صناعتنا في الفتق والرتق هباء».

ان ضربة الحظ موجودة في جميع المهن والنشاطات الانسانية لكن الذين يضعون ايديهم على خدودهم ويجلسون بانتظارها نادرا ما يستفيدون منها او يستمتعون عميقا بها، فالمتعة الحقيقية في تأمل العمل المثمر، وهو ينضج رويدا بين يديك كمزارع يغرس فسيلة ويعرف وهو يسقيها يوميا انها ستتسامق لتتحول الى شجرة يستظل بها هو وغيره وساعتها إن أتى الحظ فأهلا به وإن غاب تظل عندك الشجرة التي غرستها لتثمر ظلا وطيبا وثمرا وأعشاشا دافئة للعصافير الهاربة من الصقيع أو التائهة باختيارها في ملكوت الخليقة.