خطة شارون .. خطوة الى الأمام في غزة خطوات الى الوراء في الضفة الغربية

TT

اهتم العالم كثيرا بتصريحات ارئيل شارون الاخيرة، التي اشار فيها صراحة الى امكانية اخلاء مستوطنات غزة، بل انه ذهب الى ما هو ابعد من ذلك، حين قال ـ انه كلف بعض مساعديه وضع خطة بهذا الشأن.

وكأي جنرال يتعامل مع السياسة، بمنطق وتكتيكات العمليات العسكرية، فان شارون يتخلى عن موقع عسكري يراه اقل اهمية، من اجل احتفاظه بموقع آخر لتطوير سيطرته عليه فيما يراه خطوات تكتيكية لبلوغ اهداف استراتيجية.

وبديهي أن يتصرف شارون على هذا النحو. غير ان ما يبدو ملفتا وعلى نحو ساطع، ان مثالب هذا النمط من السلوك بدت مع مسيرة الرجل الطويلة... اكثر ظهورا كما ان اغراقه في التكتيك افقده ميزة القائد الكبير، الذي اختاره الشعب الاسرائيلي لتخليصه من الخطر، ووضع اقدامه على طريق الأمن والرفاه.

في طريقه الى رئاسة الوزراء في اسرائيل، كان شارون ينظِّر للاستيطان في الضفة الغربية كما لو انه الخلاص المطلق لدولة اسرائيل، والخلاص المضمون من امكانية قيام دولة للفلسطينيين، لذا.... لم يكتف بدعم الاستيطان والضغط على كل حكومة في اسرائيل لجعله «شرعيا» بل انه تجاوز حدود اللياقة حين استصرخ أبناء اسرائيل، طالبا منهم الارتقاء الى كل قمة جبل في الضفة الغربية واستيطانها. وحين اقول تجاوز حدود اللياقة فلأنه آنذاك، كان وزيرا لخارجية اسرائيل.

لقد كانت الدعوة لصعود الجبال لأغراض تكتيكية، مثلما الغرض من اجلاء مستوطنات القطاع الآن تكتيكيا كذلك... فشارون، الذي احنى رأسه لعاصفة الفساد الهاجمة عليه في اسرائيل بسلق صفقة التبادل مع حزب الله.... وجد في دراسة اخلاء المستوطنات من القطاع ـ مأثرة تنقل الجدل في اماكن كثيرة الى الاتجاه الذي يريد.

ففي اسرائيل سنرى غرقا جماعيا في الجدل حول الفكرة ـ سيرى فيها اليسار حافزاً لصياغة تحالف حكومي جديد مع شارون... على نحو يوفر للاثنين اقتسام الكعكة ولو الى حين حسم امور الاستحقاقات في الزمن المقبل.

وفي المجال العربي، يقدر شارون ان خطوة من هذا النوع ستكون مادة جدل بين يدي تصميم عربي على تجديد مبادرة سلام فعالة وجدية ـ يأخذ فيها العرب كل ما لهم وفق الشرعية الدولية، ويأخذ فيها الاسرائيليون كل ما يضمن أمنهم وعلاقاتهم الطبيعية مع الجوار.

وفي المجال الدولي، والمعني هنا أميركا بالمقام الاول، ثم من يدور في فلكها (الرباعية مثلا)، فان التفكير بخطوة كهذه ستزود «الفراغ الأميركي الشرق أوسطي» بمادة نقاش تقوي التحفظ الأميركي ضد أي دور للأمم المتحدة في النزاع بما في ذلك محكمة لاهاي... اضافة الى جعل «خريطة الطريق» التي ما تزال هي الرؤية الأميركية للحل، في وضع من يستحق نقاشا جديدا على ضوء مقترحات شارون «الجريئة».

انها خطوة الى الوراء، من اجل خطوات اهم الى الامام، ذلك ان غزة ـ بالنسبة للرأي العام الاسرائيلي ـ هي المرشح الدائم للاخلاء. واقل استطلاع رأي يؤيد اخراج البؤر الاستيطانية منها، لم يتراجع عن الواحد والخمسين بالمائة حتى في اوج الصراع الدموي.

«فلسطينيا».. احيطت تصريحات شارون بشأن الاخلاء بتشكيك مكثف، من قبل جميع الناطقين الفلسطينيين. وهذا امر بديهي، فمن يجرؤ على قول «برافو شارون» في حالة من هذا النوع.

ان التحفظات الفلسطينية من مبادرة شارون ـ الكلامية حتى الآن ـ مردّها، معرفة حقيقية بنية الرجل، وتشخيص لسياساته الفعلية على الأرض. ورغم ذلك، دعونا نحاور شارون بمنطق ايجابي.

ان احدث تفسير لأفكار شارون الجديدة، حول اخلاء القطاع، جاء على لسانه حين قال انها ستكون خطوات مؤلمة على صعيده الشخصي، ولكنها ضرورية لتوفير أمن ورفاه أكثر للإسرائيليين.

ان هذا الاعتراف ـ الذي جاء بعد سنوات من التنظير لأهمية الاستيطان في غزة، الى حد وصف مستوطنة نتساريم على انها بأهمية تل أبيب ـ يحتاجه الرأي العام الاسرائيلي بخصوص الضفة ايضا، المرشحة لمزيد من الخطوات لتكثيف السيطرة عليها، أي مواصلة بناء الجدار واستكمال الاطواق حول المواقع السكانية الفلسطينية لحماية المستوطنات والاعداد لمشروع دولة مؤقتة على اقل من ثلاثين بالمائة من اراضي الضفة.

هذا ليس استنتاجا، بل انه سياسة معلنة لشارون ولها برنامج تطبيقي ـ قد يتعطل أي شيء في اسرائيل الا المضي قدما فيه.

ان على الفلسطينيين والحالة هذه ـ وهم على وشك اللقاء مع شارون (وأنا اشجع ذلك) ـ ان يعرضوا الحقائق امامه، ومن ثم امام الرأي العام الاسرائيلي على النحو التالي:

أولا: اننا نرى في افكارك حول اخلاء غزة، نوعا من تنفيذ سياسة من جانب واحد. ورغم تحفظنا على هذا النوع من السياسة، الا اننا نشجعك على الاسراع في الانسحاب من غزة اليوم قبل الغد، ذلك ان غزة بالنسبة لنا في موقع القلب من الوطن.

ثانيا: ان الاعتبارات التي دعتك الى التفكير في اخلاء غزة، هي ذات الاعتبارات القائمة في الضفة مع عوامل اكثر صعوبة على اسرائيل، بحكم الاحتكاك والاختناق والضغط الذي يولد الانفجار.

اذن لم تهبط العقلانية الاسرائيلية في غزة وتغيب عن الضفة.

ثالثا: ان قدسية «الاستيطان» بالنسبة لشارون، وحتى المستوطنين، تلقت ضربة قاصمة بهذه الطريقة الساذجة في التكتيك بها، والمساومة عليها، فلماذا اذاً لا نمضي قدما في صيغة سياسية اسرائيلية ـ فلسطينية عربية ـ دولية لإغلاق الملف كله، وفق خطة خريطة الطريق، وما الذي يضر لو اختصرنا مراحلها، فلعلك توفر على شعب اسرائيل سنوات اضافية من الحروب، ومليارات اضافية من الانفاق على الجدران، ما دام الاخلاء لم يعد محرما دينيا وآيديولوجيا وهو بنظر غالبية شعب اسرائيل، حلا مثاليا يوفر الأمن والرفاه.

ان لدى الفلسطينيين الكثير الكثير ليقولوه لشارون، ولديهم من الاوراق ـ التي ان استخدمت بذكاء ـ ما يجعل الجنرال دائم الارتباك والتناقض.

ورغم معرفتنا للأهداف الجهنمية التي تكمن وراء مناورة شارون «خطوة الى الوراء في غزة ـ لأجل خطوات الى الامام في الضفة، الا ان ما يتعين على شارون معرفته في وقت مبكر، هو ان الضفة لن تكون لقمة سائغة، ولن تقل متاعبه فيها عن تلك التي عاناها في غزة.

وقد يقال ان اهمية الضفة بالنسبة لإسرائيل تستحق مقايضة من هذا النوع، وبالتالي فان اخلاء مستوطنات في الضفة لن يكون بسهولة اخلائها في القطاع. المعادل المنطقي لهذه الفكرة، هو ان الاسرائيليين الرافضين للاستيطان في غزة هم ذاتهم الرافضون وبحماس اشد للاستيطان في الضفة، وهؤلاء وصلوا الى ما يزيد على الستين بالمائة.

اذاً، فان الذي يحدد أهمية الاشياء وقدسيتها، ويحلل ويحرم هو شارون ورؤيته لحاجاته التكتيكية الراهنة، وهذا يفسد أية مصداقية له في ادعاء قدرته الحفاظ على ما كان يعتبره مقدسا بالأمس، ويراه في اليوم التالي قابلا للمساومة والتضحية.

*وزير الاعلام الفلسطيني السابق