الزهايمر بنكهة عربية

TT

لا غرابة في ان تستغيث «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» دون مستجيب، في زمن عربي جديب، يجافي المؤسسات والدراسات وفلسطين دفعة واحدة. والمؤسسة في وضعها المالي المأساوي الحزين تشابه ما يؤول إليه حال «مركز دراسات الوحدة العربية» بعد ان أصبحت الوحدة مذمومة والعروبة ملعونة. وحدّق قليلاً في المشهد العربي تر مشاريع ستينات القرن الماضي التنويرية وسبعيناته التي قامت على أكتاف الوطنيين والقوميين المخلصين تنهار واحدتها تلو الأخرى في مدى عمري قياسي، لتستبدل بواحد من خطابين: فإما الانغلاق الديني أو التراخي الانحلالي. ومع كامل الاعتراف بحق المتطرفين جميعاً في التعبير السلمي، روحانياً وجسدياً، أرضياً وفضائياً، داخل فيض من الألبسة أو حتى عراة من دونها، ينبغي على من تبقى في رؤوسهم ذرة من حكمة ان يقلقوا وهم يرون المراكز البحثية العلمية ـ على ندرتها ـ والتي هي بمثابة دماغ الأمة ومرتكز توازنها، تذوي من دون ان يهب حماة الديار لنجدتها.

ولو كان ثمة ما يموت ليولد أفضل منه لاحتفينا بالجديد وودعنا القديم بلا أسف، لكن أن يدفن مركز أكاديمي عريق له مصداقيته ووزنه الدوليان لتحل محله الاعتباطية وتكتسح الساحة منهجيات التبصير وكشف الطالع، وكليشيهات الأمزجة الغضبى، فهذا من نكد الدنيا على العباد في بلاد تميل إلى تصديق الحدس ولو جلب لها النحس. وان تترك المؤسسة العربية العلمية المستقلة الوحيدة التي تخصصت في تقصي تشعبات قضية فلسطين وما تحيكه إسرائيل من خطط واستراتيجيات تسلطية، تلاقي حتفها من أجل حفنة من الدولارات، فيما الهجمة العدوانية على المنطقة بأسرها هي على أشدها، فهذا من عجيب الأمور وغريبها. لكن قد تبدو الأمور أكثر منطقية، وأقرب إلى الفهم، لو اننا تذكرنا ان السادة أصحاب السلطة العرب ليسوا بالضرورة في حاجة لمراجعة الكتب وبحث الحيثيات والإحاطة بالمواضيع لتسوية أمورهم مع عدوهم سلماً أو حرباً. ولو كانت الحصافة العربية تعتمد قراءة أرقى من فك خطوط الكف، قبل الإقدام على اتخاذ القرارات المصيرية، لما هوت الدول العربية كعلب الكبريت في المفاوضات السرية والعلنية كما في الصراعات الحربية العسكرية.

فكيفما كان الخيار «الاستراتيجي» جاءت النتائج ركوعاً وخضوعاً واستجداءً، لأن المعرفة الشمولية والإحاطة الواعية بالتفاصيل وعميق الدهاليز ليست كلها في الحسبان. وفي هذه الأجواء لا تعرف كيف بمقدورك ان تدافع عن باحث جليل أو مركز عريق أو مكتبة للمؤسسة هي بمثابة كنز وثائقي لا تجد مثيلاً لها في أي مكان. فحين تكتب في هكذا موضوع وتستصرخ الضمائر الغافلة والقادرة في آن،تشعر بأنك تغني لحناً ناشزاً يصمّ صريره الآذان. لكنك على أي حال لا تستطيع ان تقف متفرجاً وأنت تعلم أن خسارة من هذا النوع لا يمكن ان تعوض، وتشعر بمغص في الأمعاء وتصدّع في الرأس وأنت تسمع ان المؤسسة رغم خوارها المالي كانت تدبّر المساعدات وتبحث عن التبرعات من فاعلي الخير، وهم ليسوا غير أفراد، لترسل مجلتها العربية إلى جامعات اليمن والعراق والسودان بالمجان على مدى سنوات، لأن الدول المذكورة عجزت ميزانيات جامعاتها عن تسديد الفواتير، ولم يقبل أساتذتها حرمانهم من مرجع أساسي يدخل مكتباتهم. أما كيف يطلب من الأفراد أن يصرفوا على دول كبيرة وغنية فهذه مسألة أخرى تستحق إعطاءها الأهمية؟!

لقد عاشت «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» وفق خطة دقيقة وواعية في العمل والتخطيط والتعمق والجدية والإنتاجية وكافأت بحاثتها وكتّابها وعلماءها بتقدير واحترام مادي ومعنوي كبير لا يتناسب أو ينسجم، وما هو شائع من استخفاف في البلاد العربية. وهي رغم موضوعيتها، أو تحديداً، بسبب هذه الموضوعية، اتهمت لمرات بأنها بوق لياسر عرفات، واتهمت لمرات أخرى بالترويج لإسرائيل لأنها لم تتبع السياسة التعبوية الشتائمية للعدو، والأنكى أنها فتحت أبوابها لتعليم العبرية وترجمت كتب الأعداء إلى العربية. لذلك فهي حين لم تعاقب من هذه الفئة هاجمتها تلك. وواكبت المؤسسة، ومقرها الأساسي بيروت، الحرب اللبنانية، يملؤها رعب على وثائقها وكتبها ومقتنياتها، بعد ان هاجمت إسرائيل متعمدة «مركز الأبحاث الفلسطيني» لتلغيه من الوجود وتبقى المؤسسة سالمة. والمريع ان ما لم تقدر عليه إسرائيل حينها ينفذه العرب اليوم. فهذا الكيان العلمي الرصين لا يستطيع ان يرضي غير العقل الذي يعي ويفهم، أما الباحثون عن أغراض جانبية فهؤلاء لن يجدوا لهم خبزاً أو عسلا، وسيظنون دائماً ان ثمة رائحة بصل كريهة ونفاذة تنبعث من مكان ما.

والسؤال الصحيح المطروح على العرب اليوم لا يتلخص في ما إذا كانوا يريدون «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» أم لا، وإنما إذا ما كانوا ينوون التعامل مع إسرائيل وأنفسهم أولاً من منطلقات متوازنة أم يضمرون النية في الاستمرار بالأساليب التكهنية التي تصيب حيناً لتخيب باقي الأحيان. ولمن يريد ان يعرف فإن مراكز البحث والمعرفة لا تقبل البين بين، فهي تكون على الأصول أو لا تكون. لذلك يتساءل القيمون على المؤسسة عن وسائل عصر الإنفاق في عصر الإخفاق: فهل الحل في البخل على الورق أو بحرمان البحاثة من مكافآتهم؟ وهل إغلاق مكتب واشنطن هو الحل أم التخلي عن مكتب باريس وقطع علاقات حيوية ومثمرة مع واحدة من أهم عواصم العالم؟ وهل من داعٍ لأن يبقى المركز مفتوحاً إذا فقد فاعليته، وبقي موظفوه مجرد حرّاس على مكتبة ضخمة حول فلسطين وذاكرتها، لكن الزمن فيها توقف مع مطلع الألفية الثالثة.

الألزهايمر ليس مرضاً معدياً كما هو معلوم لكن معايشة فاقدي الذاكرة أمر يدعو إلى الجنون والخبل، ولا أحد يسأل. ثم لا تستغرب أن يأتي أحدهم ويسألك ببراءة تمزق منك الأعصاب: لماذا ضاعت فلسطين؟ ألا تصدق ان المؤامرة مستمرة منذ ذلك الحين!»