ذكريات وحنين

TT

فاز الزميل غسان شربل بجائزة «المقابلة الصحافية» التي تقدمها دبي العام الماضي فزاد من جدية الجائزة ودقتها. ومعظم المقابلات التي اجراها الزميل الكريم العام الماضي وهذا العام، كانت مع سياسيين عراقيين ومسؤولين سابقين، ممن انقلبوا على من سبقهم وانقلب عليهم. وممن سجنوا بفتح السين او سجنوا بضمها. وقد قرأت تلك المقابلات تباعاً وباهتمام متفاوت حسب معرفتي بالرجال او بالاحداث. وتلك المرحلة عشتها كصحافي، اكثر قرباً من الاخبار بحكم الالتزام لا بدافع الرغبة ولا من دواعي السعادة. وعندما وصل حزب البعث الى السلطة في العراق ثم في سوريا، كنت اكتب زاوية يومية في «الصفاء» اهلل فيها كل صباح لحزب الحلم العربي. وكان صاحب الجريدة الاستاذ رشدي معلوف، يعادي البعث ويمارس ديمقراطية قصوى في القبول برأي يناقض رأيه. وذات يوم سألني «ما عنوان مقالتك غدا؟» فقلت«الى هنا البعث هو المنتصر»، فقال ساخراً «اجل. الى هنا!».

اتذكر الآن، مع ذكريات السياسيين العراقيين، تلك المرحلة التي كان يبدو فيها كل شيء بهيجا وجميلا. واتذكر الاسماء التي ترد في السطور. وبعد كل اسم يقول المتحدث: قتل. او ذبح. او مات في السجن. او القيت جثته على قارعة الطريق. وابحث بصعوبة عن الاحياء. والباقون على قيد الحياة، اي الذين تحدثوا الى الزميل الكريم، انما تحدثوا جميعاً من الخارج. وهم جميعاً في المنافي منذ عقود. بعضهم في يسر وبعضهم في فاقة. وهم محظوظون على نحو مذهل. لأن رفاقهم في المنفي ماتوا بالرصاص على سلالم منازلهم. او في المخادع امام اطفالهم. ولم يكونوا يستحقون الذكر. فهم اما جواسيس او عملاء للامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية. واما الذين وشوا بهم من مناضلين فكانوا يكافأون بالكوبونات القومية الشهيرة كما ذكر احد ضيوف الاستاذ فيصل القاسم في برنامجه الشهير، المكتظ بالحرية والديمقراطية ومكانة الرأي ورفعة الحوار وصورة الامة البهية وصراعها العظيم ضد الامبريالية من اجل نقائها القومي.

في اي حال، فلنعد الى التاريخ كما يرويه السادة المسؤولون السابقون: مرة نرى السيد فاضل المهداوي ينقي «وجبات» او لائحة الاعدام وفقاً لرغبات ابن خالته الزعيم الاوحد عبد الكريم، ومرة نراه سائراً الى ساحة الاعدام هو والزعيم الاوحد. يقول المتحدث: «اخرجوا من القاعة. ثم سمعنا نحن صوت اطلاق رصاص»! في الخارج كان عبد الكريم قاسم لا يزال يتوسل. وفي الداخل كان عبد السلام عارف لا يزال يرفع صوته مذكراً بما فعله به الزعيم. تبادل اماكن: داخل وخارج! يتكرر المشهد على مر السنين: رجال في الداخل يسمعون صوت الرصاص يطلق على الذين اخرجوا. على الاقل فاضل المهداوي اقام محاكمات صورية مضحكة ومسلية. من بعده انتهت المحاكمات. تضييع وقت. والافضل الاكتفاء بسماع صوت الرصاص. قال قاسم قبل اخراجه من الغرفة للرئيس العراقي المقبل السيد عبد السلام عارف. قال له: «انا صائم. ولم افطر بعد».

يا لها من فكرة رائعة. يا له من عنوان جميل. قال صاحب السيادة الجديدة للرفاق: «سوف نسميها ثورة 14 رمضان المباركة». لم يكفّ الزعيم الاوحد عن افادة خصومه حتى قبل الرصاصة الاخيرة! كل ذلك تاريخ الآن. لكنه لا يزال يحزن. لقد عاش حزب البعث في سورية تجربة مشابهة. انقلابات وفتن وحركات تمرد وثكنات وسجون ورفاق ينشقون على رفاق. لكن عدد الذدين قتلوا في كل تلك المحن لا يشكل حصاد يوم واحد في تجارب العراق. والثورة المصرية ارسلت الملك فاروق على يخته. عفواً، عفواً، لقد فاتني ان اذكر اخبار السحل كما ترد في المذكرات. اللهم اشمل العراق برحمتك.