فجوة المفاهيم .. بين العرب والغرب

TT

المتابع لما يجري في الغرب ومنطقتنا يلاحظ اتساع الفجوة إلى ما يشبه الهوة ليس فقط في العلم والتكنولوجيا، وإنما أيضا في الفكر والمفاهيم والمصطلحات، وبالطبع هناك علاقة وثيقة بين الإنتاج العلمي والإنتاج الفكري، كلاهما يؤثر في الآخر سلبا وإيجابا. حصيلة التفاعل بين العلم والفكر هي التي تنتج مجتمعا متقدما أو متخلفا، ومن ثم فالفجوة بين تقدم الغرب وتخلف العرب تتسع وليست في حالة سكون وإنما في حالة حركة دائمة نحو الاتساع.

الفجوة العلمية والتكنولوجية معروفة وملحوظة لأنها تعكس نفسها في واقع مادي يترجم هذه الهوة، ولكن فجوة المفاهيم لم تتناولها كتابات عربية إلا نادرا.

هناك أسباب عديدة لفجوة المفاهيم والمصطلحات بين العرب والعالم المتقدم والحضارة القائمة سأتناول هنا سببين من هذه الأسباب الكثيرة.

السبب الأول: تشويه المفاهيم والمصطلحات في العالم العربي.

تكاد تكون أغلب المفاهيم والمصطلحات الفكرية قد تم العبث بها في العالم العربي، وتراوح هذا العبث المنظم بين التشويه ووصل في الكثير من المصطلحات إلى حد التدمير الكامل، بل وإنتاج مصطلح بديل يكرس التخلف ويعمل على اتساع الهوة. هناك بالطبع عشرات وربما مئات من المصطلحات والمفاهيم التي لحقها التشويه من الصعب حصرها منها: المواطنة، الوطنية، الديموقراطية، التنمية، العولمة، العلمانية، الحداثة، التقدم والتخلف، العنصرية، التنوير، العقلانية، التمييز، التعصب، الاضطهاد، الاقلية، الآخر، المجتمع المدني، الإبداع، التنوع، التغريب، النقد، المشاركة، التعددية، الحقوق الأساسية، الحقيقة، الحاجات، الشرف، الكرامة، الحرية، الخصوصية، الحقوق الطبيعية، الحريات الدينية، الانتخابات، السلطة، الأمن، الخيانة الوطنية، التكفير، حقوق المرأة، الطفولة، مفهوم القانون، العدالة، الحقوق السياسية، الملكية، حقوق الملكية الفكرية، الحقوق البيئية.. الخ .

لن نستطيع هنا بالطبع عرض المصطلح والتشويه الذي لحق به وابعده عن سياقه العالمي فهذا جهد يحتاج إلى مجموعة من المفكرين المتخصصين في كافة المجالات الفكرية يعملون بجد ودأب من أجل إنتاج قاموس معرفي تعريفي كامل صحيح لأهم ما أنتجه الجهد الإنساني من أفكار ومصطلحات ومفاهيم صحيحة بعيدا عن أيدي العابثين، وهي مهمة ثقيلة جدا لأن المفاهيم والمصطلحات استقرت في الوجدان الجمعي العربي عند وضعها المشوه، وأصبح هناك مستوى كامل من التفكير المشوه المعزول عن السياق الإنساني والعالمي والحضاري. وما زاد الأمور سوءا أنه كانت هناك منذ عقود بعض الكتابات والاجتهادات التي تحاول نقل التراث العالمي من منابعه إلى المجتمع العربي، ولكن في العقود الثلاثة الأخيرة حدث شبه توقف لإنتاج هؤلاء المفكرين بعضهم رحل عن عالمنا وبعضهم أصابه اليأس من مقاومة السيل الجارف من التخريب، وتراجعت حركة الترجمة بشكل كبير علاوة على انتقائية كتب رديئة لترجمتها تدين الغرب المتقدم وتكرس الصورة النمطية عنه.

والذي جعل الأمور تتراجع والهوة تتسع، انتاج ما يمكن تسميته «بمصطلحات الترهيب» وكان الغرض من هذه المصطلحات القضاء على المشروع العقلاني في التنوير المرتبط والمتفاعل مع الغرب والحضارة الإنسانية. وهناك حزمة كبيرة من مصطلحات الترهيب التي أطلقت في وجه المصلحين منها : ثوابت الأمة، الأمة في خطر، الهجمة الصليبية، الغزو الاستعماري، الإسلام في خطر، التآمر على الأمة، لغتنا في خطر، الاستهداف الصهيوني، وكلاء الغرب، عملاء الغرب، الاختراق، الانبطاح، الاستهداف الاستشراقي، الهوس بالغرب، المتأمركيين، كتاب المارينز... الخ. هذا القاموس الذي يشهرونه في وجه أي مشروع عقلاني ولإرهاب اصحاب العقول الحرة والفكر المستقل.

تشويه المفاهيم ادى الى خروج العرب والمسلمين عن المعيارية الدولية كأن يقول العالم مثلا ان المتر مائة سنتيمتر ونحن نقول خمسون. الغرب هو الذى أنتج المصطلحات الفكرية ونحن نشوهها، ونصر بأن هذا هو التعريف الصحيح وندرسه فى مدارسنا وجامعاتنا وننشره فى كتبنا ووسائل اعلامنا.

السبب الثاني لفجوة المفاهيم هو التطور الهائل الذي لحق بالمفاهيم في الغرب.

ففى حين كانت المجتمعات العربية قد استقرت عند المستوى المشوه للتعريفات ومن ثم لم تلحقها ثورة التطور في المفاهيم الذى حدث في الغرب، فالمنطقي أن المصطلح استقر عند مستوى مشوه فكيف يمكن تطويره؟ ومن هنا أصبحنا إزاء عالمين مختلفين ومنفصلين بل ومتضادين. كل عالم يحاول أن يصدر مفاهيمه، فالغرب يحاول تسيير المجتمع الدولي وفقا لهذه المفاهيم، ولأن النظام الدولي هو إنتاج غربي في الأساس فهو يحاول فرض هذه المفاهيم عبر النظام الدولي، والعالم العربي لا يملك القوة لفرض مفاهيمه وبالتالي يقوم بعملية مضادة لتعطيل انتشار المفاهيم الغربية. التطوير الذي حدث للمفاهيم في الغرب كان عملية طبيعية وتابعة ومتفاعلة مع طبيعة التطورات التي وقعت فى المجتمعات الغربية ذاتها والتطور التكنولوجي الهائل الذي حدث في العقدين المنصرمين .

عملية التطوير لم تأت من المجتمعات الأكاديمية في الغرب فحسب وإنما جاءت من المجتمع المدني ومن الحقوق على الأرض التي فرضها التقدم التكنولوجي، أي أن الواقع كان أسرع من البحث العلمي الاكاديمي ودفعه وأثر فيه تجاه التطوير إلى الأفضل . وقد أدى ذلك إلى تأخر حتى الأمم المتحدة عن اللحاق بهذا التطور، فالأمم المتحدة أصبحت متخلفة عن التطور الذي حدث في المجتمعات الغربية وخاصة في أمريكا ويعود ذلك بالاساس الى الركود البيروقراطي الذي اصابها من تاثير اعضائها من دول العالم الثالث، وهي تلهث ولكن هناك فجوة بالفعل بين المفاهيم التي تتبناها الأمم المتحدة والمفاهيم التي فرضها مجتمع العولمة على الوجدان الجمعي في الغرب .

لقد تفاعل التطور التكنولوجي الهائل مع آليات العولمة مع المجتمع المدني العالمي مع التطور والحقوق المكتسبة على أرض الواقع مع مراكز الأبحاث مع الجامعات في خلق هذا التطور الهائل في المفاهيم في المجتمعات الغربية .

ولا أستطيع أن اشرح في مقالة صغيرة التطور الهائل بالفعل الذي لحق مثلا بما يسمى «بحقوق المواطنة» فهذا يحتاج إلى مقال مستقل. خذ مثلا أيضا مفهوم الحاجات الأساسية، كانت أبحاث البنك الدولي سابقا تركز على حاجات أساسية أربع في دراساتها تسمى «الحاجات الاربع الاساسية» 4 needs، وهي: المأكل، والملبس، والصحة، والسكن، والتعليم. ولكن بعد 11 سبتمبر، وما ثبت من قيام شباب من خارج دائرة الفقر باقتراف جرائم ضد الإنسانية، أضيفت إلى مفهوم الحاجات الأساسية حاجتان، وهما المشاركة السياسية وحق العمل، فالبطالة والفراغ قادتا شبابا من الطبقة الوسطى أو الغنية إلى هذه الجرائم ومن ثم أصبحت المشاركة السياسية وحق العمل ليسا ترفا وإنما احتياجان أساسيان للإنسان مثل الحاجات البيولوجية والإهمال فيهما يؤدي إلى كوارث.

بالطبع لا يمكن هنا أن نشرح في سطور التطور الهائل الذي لحق بعشرات المفاهيم وجعل الكثيرين من المتابعين لهذه التطورات ينظرون للعالم العربي وهم يحملون قدرا كبيرا من اليأس والحزن والألم لما آلت إليه مجتمعاتنا في الشرق ، ولكن ليس للعقلاء فى العام العربي خيار آخر إلا محاولة إضاءة ولو شمعة صغيرة وسط هذا الظلام الحالك .

[email protected]