«الحرّة»

TT

هناك اكثر من منظور للتطلع الى الفضائية الاميركية «الحرة» التي بدأت البث قبل ايام. فالتحدي الاول هو الاسم، الذي يفترض تضميناً او تلميحاً ان بقية الفضائيات غير حرة. وهذه مخالفة فجة للحقيقة. فإذا كانت الفضائيات العربية تمثل حكوماتها وانظمتها وسياساتها، فإن «الحرة» محطة رسمية بالشهرة وليس بالتبطين. وهي تمثل سابقة في السياسة الاميركية نفسها. كما انها تمثل اعلاناً عن سياسة مستقبلية تتخطى السعي الى الوجود العسكري الدائم في المنطقة الى الوجود الاعلامي الدائم، او بالاحرى الى تلازمهما. وهذا يعني، على نحو ما، ان اميركا تريد ان تصبح دولة مقيمة في المنطقة، كما فعلت في اوروبا بعد الحرب.

لكن المقارنة التي انشأها الاستاذ عبد الرحمن الراشد بين «الحرة» وبين «صوت اميركا»، تبدو بالنسبة اليّ اقل من الواقع. واعتقد اننا هنا امام نسخة عربية من «اذاعة اوروبا الحرة Radio free europ»، التي انشئت من اجل المواجهة الايديولوجية مع الشيوعية. اما «صوت اميركا» فكان اذاعة متعددة اللغات، اهمها الانكليزية، وكان احد اهدافها الوصول الى العقل الاميركي نفسه، ولذلك التزم باحترام القواعد المهنية بقدر الامكان. كما كان يضع في الاعتبار وجود منافس ضخم مثل البي.بي.سي. وفيما انزلق «صوت اميركا» تدريجياً الى البروباغاندا الفجة تطورت البي. بي. سي الانكليزية بموضوعيتها حتى اصبح لها الآن اكثر من مائة مليون مستمع حول العالم.

اما «الحرة» فهي منذ البدء محطة دعائية معلنة. وقد ولدت في ظروف «الحرب» الرسمية التي اعلنها جورج بوش على الارهاب غداة 11 سبتمبر. وكانت واشنطن منذ ايام كلنتون قد جعلت جزءاً من «اذاعة اوروبا الحرة» التي اصبح مقرها براغ الآن، موجهاً الى العراق. وسلمت القسم المتعلق بالعراق الى عراقي يساري سابق من المعارضين ومن ذوي الكفاءة الصحافية. لكن منذ ان تسلم ذلك العمل، غاب هو عن الصحافة ولم يسمع صوته على الاذاعة.

قبل «الحرة» التلفزيونية اطلقت اميركا اذاعة «سوا». وكلما كنت في سيارة تاكسي في الامارات يتسنى لي سماعها. ويبدو ان «الحرة» تتبع نفس الايقاع السريع والتوجه الى شبان من عمر معين. وسوف تدعي الموضوعية باعتماد اسلوب الهدوء والابتعاد عن الزعيق وصراع الديكة. لكن مهما كانت اللهجة هادئة فسيظل هذا بالنسبة الى الناس صوت اميركا وموقفها. وكل من سيصغي اليها، لديه موقف مسبق لاشعوري. ولست ارى كيف ستنافس، حتى مهنياً او اخبارياً، فضائية مثل «العربية» التي اثبتت نفسها محطة موضوعية ولكن من منظور عربي ودائما تحت سقف الهموم العربية. واين ستعثر «الحرة» على عدد كاف من العاملين الذين تحتاج اليهم وسط كل هذه المنافسة. وقد اجتذبت حتى الآن نوعين من اهل المهنة: الفنيون، الذين لا يضيرهم ان يكونوا خلف الكاميرا لا امامها، وبعض الوجوه المعروفة والكفية. ولكن عدداً كبيراً تردد في ركوب المغامرة السياسية والدخول الى معترك لا يدري الى اين سيؤدي به، اذا ما اشتد النزاع، الذي كان في الماضي عربيا ـ اسرائيلياً، فأصبح اليوم عربياً ـ اميركياً الى حد بعيد. بعضه معلن وبعضه خفي. وبعضه تطلبه فئة من العرب، فيما بعضه الآخر تطلبه فئة من الاميركيين. بإصرار.