ما عاناه اليهود من صخرتهم

TT

لم تضر اقامة اسرائيل السلام العالمي والعلاقات العربية الغربية ومصالح الغرب فقط، بل واضرت احوال اليهود عالميا. عانى اليهود كثيرا عبر تاريخهم ولكن القرن التاسع عشر فتح الابواب للاشتراكية واللبرالية والانسانية فألغي الرق وازيلت التفرقة والقيود على الطوائف. تضمن ذلك تحرر اليهود الذي انعكس بظهور اليهودية الاصلاحية التي آمنت بأن اليهودي ينتمي الى الوطن الذي يعيش فيه ولا يربطه بغيره من اليهود غير الايمان الديني.

ولكن هذا الاصلاح، ككل اصلاح، عانى من كبوات واختلف من بلد الى بلد. الصهاينة الذين لم يفهموا منطق التاريخ وعانوا من وحشية اللاسامية فقدوا اعصابهم وصبرهم فاختاروا طريق الهجرة الى وطن خاص بهم. حذرهم اخوانهم في اوربا الغربية من اخطار هذه الفكرة فهي تثير الشكوك في ولاء اليهودي لوطنه وتدعم مقولات اللاساميين في ان اليهود غرباء واجانب. خاض اللبراليون اليهود معركة طاحنة ضد الصهاينة في كل مكان، حتى في الامبراطورية الاسلامية وقف الحاخامات ضدها بقوة حتى قيل ان الحاخام باشي في اسطنبول كان يبصق عندما يذكر اسم هرتزل امامه.

وهكذا كان الامر في العراق. لم يلتف حول الصهيونية غير نفر قليل جدا. وفي الاربعينات اسس اليهود اليساريون جمعية مكافحة الصهيونية. رأى شبابهم الخلاص في الاشتراكية والديمقراطية وتمسك شيوخهم باليهودية الارثوذكسية التي آمنت بالانتظار حتى يظهر المسيح المخلص. بيد ان ظهور هتلر والهلكوست والسلوك الشوفيني للقوميين العرب قلب المعادلة.

ليس لدي اي شك، لو ان اسرائيل لم تقم لبقي اليهود العرب معززين في اماكنهم، ولأصبح لهم شأن كبير في مسيرة العراق، وطنهم الاصلي تاريخيا وحضاريا ودينيا. التوراة والتلمود والشريعة الموسوية دونت في بابل وليس في اورشليم واستمدت فكرها من سومر وليس من كنعان.

انني اعتبر خروج الطائفة اليهودية (نحو 130 ألف نسمة) من العراق من أكبر الجرائم التي تسببت بها القوميتان اليهودية والعربية. كان خروجهم من العراق محنة نفسية، دفعت بالكثير منهم للانتحار. وبعين الوقت تركت فراغا في النخبة المتعلمة العراقية تساعد على قيام الدكتاتورية. لم يتعرض النصارى ولا الصابئة للاضطهاد، فما الداعي لتعرض اليهود له لولا تدخل الصهيونية؟

لم ينقذ الحل الصهيوني اي يهود من الاضطهاد. فهي لم تنقذ يهود اوربا من المحرقة. وفي اوربا الشرقية حررتهم الاشتراكية ثم اللبرالية. وفي بريطانيا وامريكا لم يكونوا في حاجة لمن ينقذهم. وفي عالم الاسلام كانت هي التي اثارت الاضطهاد ضدهم. يبدو ان الوحيدين الذين وجدوا فيها ملاذا هم النصابون والحرامية الهاربون من العدالة امثال روبرت مكسويل وشرلي بورتر. الصهيونية في رأيي اكبر حماقة ارتكبتها البشرية واكثرها كلفة. وما زالت ربيبتها اسرائيل في اول المطاف. لا يخامرني اي شك في انه سيأتي ذلك اليوم الذي يلعن فيه اليهود ما جرتهم اليه الصهيونية واثارته ضدهم من معاداة السامية واتهامات ازدواجية الولاء وخيانة الاوطان. فلا بد ان تنشأ ظروف واحوال يواجه فيها اليهودي محنة الخيار بين اخلاصه لاسرائيل واخلاصه للوطن الذي ولد فيه ويحمل جنسيته. وحتى ذلك، سيبقى هذا البلد الذي وعدهم بأن يكون ملاذهم الآمن هو البلد الوحيد في العالم غير الآمن لحياتهم.