استحضار الماضي وتغييب الحاضر

TT

بالرغم من حديث الجميع عن القرن الواحد والعشرين وعصر العولمة والقرية الواحدة، يصّر البعض على أن تبقى بعض المصطلحات والمفاهيم القديمة حيّة في أذهان الناس، رغم أنّ الواقع قد تجاوزها ولم تعد مفيدة على الإطلاق في إيضاح ما يجري اليوم على أرض الواقع. وعلّ أخطر هذه المصطلحات وأكثرها تأثيراً على مجرى الأحداث السياسية اليوم هو مصطلح «معاداة السامية»، الذي ظهر في فترة تاريخية معينة ولأسباب ذات صلة بما جرى في تلك الفترة، التي تختلف اختلافاً جذرياً عن الواقع الذي يشهده عالمنا اليوم. وبما أنه لا شيء يحدث بالصدفة، فإن التركيز الذي تشهده الدبلوماسية العامة من «إسرائيل» إلى أوروبا والولايات المتحدة، على ما يسمونه « معاداة السامية المتجددة»، أو «أخطار معاداة السامية»، له أسبابه العميقة في المخطط الإسرائيلي لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من وطنه والاستيلاء على أرضه. واستعراض استخدام هذا المصطلح كسيف مسلّط على رقبة كل من يجرؤ على انتقاد سياسة شارون الاستيطانية والتطهير العرقي والفصل العنصري، يري أنه لا بدّ اليوم من تفنيد هذا المصطلح ووضعه في إطاره الصحيح، والتنبيه إلى ضرورة الفصل تماماً بينه وبين معاداة السياسات العنصرية الإسرائيلية التي تُنفذ عمليات التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، باعتراف المراقبين الدوليين، وتحتل أرضهم وتصادر مواردهم وحقهم في دولة مستقلة.

دارت في الأشهر الأخيرة معارك حامية في فرنسا حول «معاداة السامية»، حيث ادعى شارون أن «معاداة السامية» في العالم، قد وصلت إلى درجة لم تبلغها من قبل، كما أنّ آلان جوبيه، رئيس وزراء فرنسا السابق، قد دان أخيرا «عودة معاداة السامية إلى فرنسا»، كما أن موشيه كاتساف في زيارته الأخيرة إلى فرنسا أصرّ على أن «معاداة السامية» موجودة في فرنسا ولكنه يثق بأن الرئيس والحكومة سوف يكافحانها. كما اعتبر الإسرائيليون أن استفتاءات الرأي في أوروبا (والتي اعتبرت اسرائيل الدولة الأولى في تهديد الأمن والسلم الدوليين)، إنما هي نتاج انبعاث «معاداة السامية» من جديد، وبعد ابتزاز المفوضية الأوروبية من قبل المؤتمر اليهودي العالمي، عاودت المفوضية أعمال التحضير لعقد منتدى عن «معاداة السامية» في القارة الأوروبية، وقد أصبحت تهمة «معاداة السامية» اليوم، الأسهل استخداماً من قبل قادة اسرائيل لكمّ الأفواه عن كل ما يقترفونه من أعمال إبادة عرقية وفصل عنصري ضدّ الفلسطينيين، ولكن كيف يمكن الاحتفاظ بهذه التهمة جاهزة لابتزاز منتقدي حكومة اسرائيل، إذا كان من ينتقد الأعمال الإجرامية التي تقوم بها يهودياً أو إسرائيليا؟

في «معرض إبادة الشعوب»، الذي أقيم في استوكهولم أخيرا، تم عرض لوحة «هنادي جرادات»، وهي لوحة رسمها فنان يهودي أراد أن ينقل للعالم من خلالها، صورة حيّة عن سفك دماء الفلسطينيين، كما أن أفي شلايم وهنري سيغمان وزائيف شيف من الكتاب اليهود الذين يشيرون إلى مخاطر سياسة الاحتلال والاستيطان في المنطقة ومخاطر الفصل العنصري والتطهير العرقي على مستقبلها. والخلط المعتمد بين انتقاد السياسات الإسرائيلية حيال الفلسطينيين و«معاداة السامية»، يقصد منه إرهاب العالم، بحيث لا يتجرأ أحد على الإشارة إلى حقيقة ما يجري خوفاً من استحضار الماضي وإلصاق تهمة «معاداة السامية» به. ولكنّ التاريخ يشهد أن آخر من يمكن أن توجّه لهم هذه التهمة هم العرب، حيث عُرفت اسبانيا في عهد العرب بأنها كانت «جنة اليهود»، ولم يعانِ اليهود أبداً في العالمين العربي والإسلامي مما عانوا منه في أوروبا، بل شهدوا ازدهاراً فكرياً واقتصادياً ونعموا بالحرية الدينية، ومع ذلك، فقد تمّ اعتبار توصيف واقع الحال من قبل مهاتير محمد بأنه «معاداة للسامية»!

وفي هذا الصدد نشر الكاتب الأميركي هينري سيغمان، مقالاً في ملحق صحيفة الـ«نيويورك تايمز» ينبه إلى الأخطار التي قد تهددّ اسرائيل من الداخل، إذا ما استمرت حكومة شارون في سياسة الإبادة والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين، ويكشف الكاتب عن حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط، ألا وهو حرب احتلال اسرائيلية للمزيد من الأرض الفلسطينية، وتهجير وقتل المزيد من الفلسطينيين، ليحل محلهم وفق الأيديولوجية العرقية للصهيونية، مستوطنون يهود جدد، وأنّ كل ما يدور في ردهات السياسة والعلاقات العامة وكل ما يتم الحديث عنه من «دولة فلسطينية» و«خريطة الطريق» و«عملية السلام» لا معنى له أمام المخطط الحالي الذي يهدف إلى استكمال حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين، التي بدأت عام 1948 والتي يمكن القول إن العالم يشهد الفصل الأخير منها، مع إعلان شارون النية في سحب بعض المستوطنات من غزة لإعادة موضعتها في الضفة الغربية، واستكمال بناء جدار الفصل العنصري بحيث تصبح إقامة دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً.

ويكشف المقال عن أبعاد ومغزى مقابلة بني موريس في جريدة «هآرتس» (9 كانون ثاني 2004)، حيث كشف عن ملفات جيش الدفاع الإسرائيليين والتي أكدت على ضرورة إبادة 700 الف فلسطيني في عام 1948، كي يصبح قيام اسرائيل ممكناً، وصدرت الأوامر للهاغانا لاقتلاع الفلاحين الفلسطينيين وطردهم وتدمير قراهم. ويضيف موريس، أنها مسألة وقت قبل أن يكون على اسرائيل استكمال ما تبقى من الضفة الغربية ما بدأته عام 1948 من تطهير عرقي في فلسطين، ويضيف موريس إن هدف إقامة دولة اسرائيل بالنسبة لقادتها يبرر كلّ المآسي والجرائم التي يتعرض لها الفلسطينيون باقتلاعهم من ديارهم وتهجيرهم وقتلهم.

ولكنّ حرب الإبادة التي أعلنها شارون ليست سراً اليوم... إذ ماذا يمكن تسمية سياسة الاغتيالات وهدم المنازل وقتل الأطفال واقتلاع الأشجار! الأخطر اليوم هو أن «اسرائيل» تقود هجمة علاقات عامة في الغرب لإقناع أوروبا والعالم، أن ما تقوم به يهدف في النهاية إلى تحقيق السلام والأمن! وتبقي في الوقت ذاته الحوار ساخناً حول «معاداة السامية» وإدخال «الديمقراطية إلى العالم العربي» ومعالجة «القلق الأمني» في المنطقة.

وفي الوقت الذي يدلي وزير خارجية ألمانيا ووزير خارجية فرنسا برأييهما بما تحدث به الرئيس بوش ووزير خارجيته حول «الشرق الأوسط الأكبر»، نلاحظ أن الجهد العربي، الرسمي والإعلامي والمدني، بعيد جداً عما يجري أو ما سوف يجري في المنطقة، وهو بطيء في الرد ويكاد يكون غير موجود. هناك اليوم في أوروبا وأميركا اقتراحات وخطط ونقاش حول إعادة ترتيب هذه المنطقة وتغيير حاضر ومستقبل العرب، ولكن من دون أي وجود رسمي أو غير رسمي عربي في النقاش الجاري، وكأن الحكومات العربية والهيئات المدنية ووسائل الإعلام لا يعنيها أبداً ما يتم طرحه، في حين من المفترض أن يكونوا فاعلين لوضع وجهة النظر العربية على جدول الأعمال، والتأثير بمسار النقاش والحدث لما فيه خير الشعب العربي ومصلحته.

إذا كانت اسرائيل تستحضر الماضي الأوروبي، ومنه «معاداة السامية» لتبرير الاحتلال والاستيطان في فلسطين، فإن عدم انخراط العرب، في ما يجري من أحداث ورسم سياسات، يعتبر تغييباً غير مقصود ولكنه خطير جداً للحاضر. إن خير ما يمكن فعله اليوم هو أن يشكّل الواقع الذي يعاني منه العرب اليوم مصدراً للقرار، وعلينا أن نحمل نحن قضايانا وندافع عنها بحكمة وجرأة وتصميم، لا أن نكتفي بلوم الآخرين وحسب، فبدل أن «نشتم الظلام علينا أن نشعل شمعة». إن إعادة مشروع هلسنكي والحديث عن تغيير المناهج والإعلام والواقع في غياب عربي شامل عن المفاوضات التي تدور في العواصم الأوروبية والأميركية، إنما هي فاصل للوجود العربي، وفي واقع الحال فإن المعركة الأخطر وشيكة الوقوع، فهل نلتزم الصمت أم نتحرك بحكمة ووعي لأننا نحن أصحاب حق وقضية عادلة؟ إن الهجمة الاسرائيلية العامة على أوروبا هجمة منظمة وشاملة وهي تهدف إلى إضفاء الشرعية الدولية على الاحتلال والاستيطان وأسلحة الدمار الشامل التي تملكها.

وهناك الكثير من العمل الذي يمكن للعرب ويتوجب عليهم فعله الآن والتوقيت، كما يقول المثل، هو كلّ شيء.