ربع قرن على حركة جهيمان.. ماذا بقي وماذا فني؟ (2/2)

TT

تحدثنا في الجزء الاول، المنشور امس، عن سيرة جهيمان وتصحيح الاغلاط التي وقع فيها الدكتور رفعت سيد احمد، ومررنا بلحظة انشاء الجماعة السلفية المحتسبة، انتهاء الى هروب جهيمان من الملاحقة الأمنية في الصحراء حتى خروجه في الحرم مع محمد بن عبد الله القحطاني. في اثناء الهرب، بدأ أفراد الجماعة بتوزيع منشورات جهيمان، وخصوصا منشوره (رفع الالتباس عن ملة إبراهيم أفضل الناس) وفيه يحض على الانفصال عن الحكومة ووظائفها بحجة أنها لا تحكم بشريعة الله. هذه الفكرة، اعني التركيز على (ملة إبراهيم) طوّرها الاصولي الأردني أبو محمد المقدسي في كتابه الشهير (ملة إبراهيم) إلا انه ذهب بها مدى ابعد من مدى جهيمان، فرتب عليها تكفير الحكومات، وهذا ما لم يصل إليه جهيمان، وهو ما يؤكد الخط الانحداري الذي اتخذته السلفية الجهادية بعده، ومن يدري ربما كانت مرحلة جهيمان، مجرد حلقة تطورية في الوصول الى نقطة المقدسي؟!

يقول جهيمان في رسالته (الإمارة والبيعة والطاعة) بعدما تحدث طويلا عن صورة الحكومة الإسلامية المثالية في نظره، والقائمة على محاربة مظاهر الحياة الحديثة والعلاقات الدولية، وغير ذلك، وعن عدم تحقق هذه الصورة في الحكومة الموجودة، قال «ومع ذلك لا يلزم من هذا تكفيرهم بل من اظهر منهم الإسلام حكمنا له به حتى تثبت ردته عنه». وهذا بالضبط ما لاحظه المقدسي على جهيمان في رسالته الصاخبة (ملة ابراهيم) التي تعتبر من المصادر الأساسية لتيار القاعدة في السعودية الآن، كما أن الأصولي السعودي محمد المسعري انتقد ما أسماه بـ(عدم الانضباط!) بالنسبة لجماعة جهيمان لعدم تكفيرهم الحكومة السعودية وقال في كتابه الذي وسمه بـ(الأدلة القطعية على عدم شرعية الدولة السعودية).

«بل إن جهيمان كان يرى، وللأسف، أن الخروج على هؤلاء الحكام باختلاف صورهم، وقتالهم في عقر دارهم، من دون هجرة إلى مكان ما، يعد خلافاً للسنة. وغفل عن أحاديث منازعة الولاة ومنابذتهم في وسط الدار إذا ما أظهروا الكفر البواح. فهو لا يرى أنهم أظهروا كفراً بواحاً، والحكومة عنده، وللأسف الشديد، حكومة مسلمة».

وبصرف النظر عن الاختلاف التكويني بين جهادية المقدسي وتحريرية الآخر، إلا أن هذه الانتقادات تعطينا مؤشرا هاما على مدى التطرف السياسي الديني الذي حصل بعد جهيمان، على تطرف الأخير. وربما يكون مردّ ذلك إلى السذاجة الفكرية لدى جهيمان وفقر وعيه السياسي، وحداثة تجربته أيضا. لقد كان الرجل مهجوسا بالمحلية المفرطة في خطابه الديني السياسي، ومن هنا نفهم هيمنة لحظة زمنية على تفكيره الديني، فهو ينطلق من لحظة السبلة ويعود إليها، ويدير حركة عقله في مدارها، ويفسر كل شيء من ثقبها، من ذلك أنه فسّر أحاديث الفتن والملاحم التي تقع آخر الزمان من هذا المنظور. يقول في رسالته (الامارة والبيعة) بعدما أورد حديث الصحابي عبد الله بن عمر في سنن أبي داود الذي يتحدث عن المعارك التي تقع آخر الزمان وفتنة (الدهيماء) التي لا تدع أحدا إلا لطمته وأن الناس، بعد ذلك، يصطلحون على رجل كضلع على ورك، قال جهيمان «وفتنة الدهيماء هي التي يصبح فيها الرجل مؤمنا ويمسي كافر. وهي التي لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، وهي التي تكون بعد اصطلاح الناس، مؤمنهم وكافرهم، على هذا الرجل، الذي هو الملك عبد العزيز كما يتبين لك من الحديث، وراجع رسالة الفتن يتضح لك الامر اكثر».

اذن هكذا يتصور جهيمان حركة الزمان الإسلامي الكلي، من ثقب معركة السبلة، وأجواء الشحن السياسي التي صاحبتها، والتي عايشها الرجل بالتأكيد في طفولته وشبابه عبر محيطه الاجتماعي الضيق.

ويصور المؤسس الكبير، صورة غيبية تنطوي على قدر كبير من الغرائبية، ولا شك ان هذا التصوير الغريب للملك عبد العزيز، ما هو إلا رد لاشعوري ربما، وانتقام غير مباشر، بسبب الحسرة التي أصابته جراء انهيار حركة اخوان السبلة الاصولية على يد الملك عبد العزيز رحمه الله.

ويصبح الزمان الاسلامي، منظور جهيمان، زمانا مغرقا في محليته النجدية، وليس زمانا شاملا للمسلمين، بما أن هذه الأحاديث قالها نبي الإسلام وتتعلق بواقع المسلمين كلهم، وهذا يقودنا للحديث عن الاستغلال السياسي لأحاديث الملاحم والمهدوية، التي تحفل بالكثير من المنحول، والقليل من الثابت، وتلك قصة أخرى مشوقة ومحزنة! لقد كانت حركة جهيمان، في طورها الأخير، تفجيرا للمكنون الاجتماعي الخاص به ومن يناظره في الظرف، ومن هنا نفهم إصراره على انتهاج ثقافة وخط أهل الحديث المناهض للثقافة الدينية التقليدية المحلية، وهي الثقافة الحنبلية ذات الامتداد الوهابي السلمي، لقد كان الشيخ ناصر الدين الالباني، رمز مدرسة أهل الحديث، وأستاذ الحديث في الجامعة الإسلامية في المدنية المنورة، قبل أن يبعد من الأراضي السعودية، هو المرجعية المنهجية في التفقه، وهو الباذر لبذرة العداء للثقافة الدينية التقليدية، وله في ذلك مساجلات مع مشايخ محليين.

كانت معادة (جماعة السلفية المحتسبة) للثقافة الدينية التقليدية، لا منطلق التحرر الفكري والتجديد الفقهي، بل وجه من أوجه الاعتراض على السائد الديني والسياسي. بدليل أن هذه الجماعة لم تطور مذهبا ومنهجا فقهيا وفكريا بديلا لافتقارها الفاضح لمقومات التبديل والتطوير. ولغياب هذه الإشكالية أصلا من أفق تفكيرهم، إذن كان هذا التجافي نوعا من الإغاضة والعزوف عن السلطة، وثقافتها، هذه السلطة التي يراها لا إسلامية.

لقد كانت الثقافة الدينية البديلة، التي اقترحها جهيمان وأصحابه، تعيسة هي الأخرى، وحسب من عاصر تلك الحقبة، كانوا يرون خمسة كتب تقريبا كافية للاستيلاء على العلم الشرعي والتمكن منه، محددين إياها بـ(تفسير ابن كثير، ومختصر صحيح مسلم وصحيح الجامع الصغير وضعيفه ومشكاة المصابيح وتخريجها) وأربعة من هذه الكتب من أعمال الشيخ، المحارب للمذاهب الأربعة، ناصر الدين الألباني. وكان جهيمان يحملها معه في سيارته، مخصصا لها صندوقا خاصا صنعه له الحداد، إلا انه واجه مشكلة تكمن في أن حجم احد هذه الكتب اكبر من قياس الصندوق الحديدي الذي سجن فيه الكتب!

ويبقى التساؤل المضني: لماذا خرج خروجا مسلحا ومأسويا وصادما لمشاعر الملايين في الحرم المكي ما دام لا يتبنى تكفير الحكومة؟ الواضح، كما في التسجيلات التي بثها التلفزيون السعودي حينها لحادثة الاقتحام وخطب الجماعة المصاحبة لها، أن الجماعة كانت تتوهم أن معها المهدي المنتظر، الذي جاء ذكره في بعض الآثار المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان خروجه خروجا ملحميا ينتمي إلى عالم آخر الزمان، والغيبيات الدينية، لا كما توهم كثير من عتاة اليسار العربي أنها كانت ثورة (المناضل) جهيمان العتيبي الذي (انتفض لصالح البروليتاريا... الخ)!

كان جهيمان مغموسا بأحاديث آخر الزمان، ودائم الذكر لها، سواء في مجالسه مع اصحابه وأتباعه، أو في رسائله. وكان المصدر الأساسي لتغذيته بهذه الأحاديث هو الكتاب الموسوعي (إتحاف الجماعة لما كان ويكون بين يدي الساعة) للمؤلف الراحل الشيخ السلفي حمود التويجري. وبسبب الأجواء الانعزالية النقائية ذات الشحنة الرومانسية التي كانوا فيها، كثر بينهم رؤية الأحلام (الرؤى) التي تبشر بقرب خروج المهدي المنتظر، ولهم في ذلك قصص وحكايات تنتمي إلى أجواء ألف ليلة وليلة.

وفي تقديري أن فقدان الحلول العملية ووصول الآيدولوجيا إلى جدار مسدود، وأجواء الترقب والهرب التي عاشها جهيمان، كل هذه الاسباب مجتمعة، أنضجت فكرة المهدي المنتظر، وتم إقناع محمد بن عبد الله القحطاني بأنه المهدي. كان القحطاني هو رجل الأقدار، أو هو الجسد الذي ألبسه جهيمان وهم الخلاص الملحمي.

ونصل الى السؤال: ماذا بقي من جهيمان، وماذا فني؟

بقي وهم الدولة الإسلامية (المثالية) وفنيت الملابسات والخصائص الذاتية التي اكتنفت جهيمان وحركته. إذن، بقي الجوهر، وفني العرَض! هذه محاولة لمقاربة الموضوع السعودي الخطير، سعيا للفهم، ومنعا للتكرار، وإن بأشكال وصيغ أخرى. نفعل ذلك لأنه، وبعد مرور ربع قرن من الزمان، لا بد أن نعيد قراءة تاريخنا وعقلنا، خصوصا أن غيرنا، فعل ويفعل ذلك دوما. أفلا نكون نحن الأولى بالمعرفة، أو المحاولة على الأقل؟!