إلى قادة الغرب: تذكروا كيف انتقلتم من العصور الوسطى إلى الحداثة..

TT

أعترف بأن السؤال الاساسي الذي يشغلني منذ اكثر من ربع قرن وحتى الآن هو هذا السؤال الذي طرحته في العنوان. ومنذ مجيئي الى فرنسا عام 1976 وأنا ألف حوله وأدور. وربما قضيت كل عمري في البحث عنه. وأعتقد شخصيا انه سوف يشغل الاجيال المقبلة التي ستجيء بعدنا لأن جيلنا عاجز وحده عن حل أو ايجاد جواب شاف له.

وكل المناقشات التي تدور حاليا حول تشكيل شرق أوسط جديد وكبير، أو حول دمقرطة المنطقة والاصلاحات السياسية، أو حول تغيير برامج التعليم وتجديدها بما فيها التعليم الديني، كل ذلك له علاقة بالموضوع المطروح هنا.انه موضوع المواضيع ومسألة المسائل. ولكن ردي على فلاسفة الغرب وسياسييه من بوش الى شيراك الى بلير، ومن جيل كيبيل الى ريمبيس دوبريه الى برنارد لويس وآخرين هو التالي: ان ما حققتموه في مجتمعاتكم على مدار ثلاثة قرون لا نستطيع تحقيقه بثلاث سنوات ولا حتى بثلاثين سنة! فخذونا بعفوكم ايها السادة إذن وارحموا ضعفنا واشفقوا علينا. ولا تشمتوا بنا اكثر من اللزوم ولا تسخروا منا.

يضاف الى ذلك اننا لسنا مجبرين على اتباعكم حرفيا وتكرار تجربتكم عندنا أو تقديم نسخة طبق الاصل عنها! لا ريب في اننا سنأخذ منها الكثير، وسوف نستفيد منها الى اقصى الحدود. ولكننا نرفض ان نكون تقليدا أعمى لكم. فالحداثة العربية ـ الاسلامية المقبلة سوف تكون لها خصوصيتها. وسوف تحاول ان تتحاشى سلبيات حداثتكم أو شططها وتطرفاتها. وأقصد بالسلبيات هنا ظاهرة العدمية والنسبوية، بمعنى ان كل شيء يتساوى مع كل شيء، كما واقصد الاباحية المطلقة واعتبار المتعة الحسية قيمة القيم ومعيار الوجود. اني اعرف ان حضارتكم لا تختزل الى هذا الشيء، وان فيها جوانب مضيئة عديدة. وبالتالي فهناك اشياء حتما سوف نستفيدها منكم اذا ما أردنا ان نخرج من ورطتنا وجمودنا الفكري وغوغائيتنا. وأهم تجربة سوف ننظر فيها طويلا ونستخلص منها الدروس والعبر هي: كيفية انتقالكم من العصور الوسطى الى عصر الحداثة، وما معنى هذه النقلة النوعية أو القطيعة الابستمولوجية التي لم تحصل في اي حضارة أخرى الا عندكم. سوف نرى كيف خرجتم من جلدكم، كيف عانيتم وتعذبتم، وكيف وصلتم الى شاطئ الأمان بعد نزيف داخلي حاد كاد ان يقضي عليكم.

هذه هي النقطة الاساسية التي تهمني في حضارتكم، هذه الحضارة التي تحاولون فرضها علينا الآن ولو بقوة السلاح. فعلى ما يبدو لقد استعصينا على التطور والتغير بوسائلنا الخاصة فجئتم الى عندنا لكي تقوّموا اعوجاجنا بالعصا الغليظة.. وبما ان التغيير عن طريق الداخل فشل فإنه لم يبق إلا التغيير عن طريق الخارج.

ولكن تعلمون ايها السادة الكبار ان التغيير اذا لم يجئ من الداخل، وبشكل عفوي طبيعي، فإن الشعب لا يتقبله بسهولة ولا ينغرس في اعماقه ولا يترسخ. وأنتم بين عشية وضحاها تريدون تحويلنا من أصوليين الى متسامحين، ومن استبداديين الى ديمقراطيين، ومن خائفين استعذبوا طعم العبودية على مدار القرون، الى أحرار! فرفقا بنا إذن، وذلك لأن الطبخة قد تحترق اذا ما استعجلتم بها أكثر من اللزوم. اننا لا نطالبكم بثلاثمائة سنة لكي نستطيع الخروج من العصور الوسطى والدخول في مناخ العصور الحديثة. وانما نطالبكم بثلاثين سنة على الأقل. وهي ليست شيئا كثيرا في عمر الشعوب. فنحن لا نستطيع ان نهضم في لمح البصر كل الثورات العلمية، والفلسفية، والسياسية التي هضمتموها انتم على مدار القرون.

متى ابتدأ النقد التاريخي للنصوص المسيحية في الغرب؟ في النصف الثاني من القرن السابع عشر على يد العالم اللغوي الفرنسي ريشار سيمون، والفيلسوف الهولندي الكبير سبينوزا. حتى قبله المسيحيون الاوروبيون، وان على مضض! عام 1965، على أثر انعقاد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني. ومع ذلك فقد بقيت اقلية متزمتة وقوية نسبيا عندكم ترفضه. وكم من المعارك الطاحنة جرت أثناء هذه الفترة الطويلة الممتدة من النصف الثاني من القرن السابع عشر، الى النصف الثاني من القرن العشرين؟ كم من الدماء سفكت، وكم من اللعنات تبودلت، وكم من الصفحات والصفحات المضادة حُبِّرت؟ وكل ذلك من أجل التوصل الى تلك الصحوة التي لا صحوة بعدها: أقصد صحوة الضمير المؤمن على ذاته لكي يعرف لماذا يؤمن وبم يؤمن، ثم لكي يتوصل الى معادلة توفيقية جديدة بين الايمان والعلم، أو بين القلب والعقل، أو بين الروح والمادة، أو بين السماء والارض.

لا ريب في ان الأنوار الفرنسية والاوروبية هي التي تمثل القطيعة الابستمولوجية، أو المعرفية الكبرى التي تفصل العصور الوسطى عن العصور الحديثة. ولكن المثقف الحديث الذي نشأ على انقاض المثقف القديم، اي الكاهن المسيحي، لم يظهر فعلا إلا بعد ان تُرجم التنوير على ارض الواقع من خلال الثورة الفرنسية وما تلاها. على مدار قرون طويلة كان الكهنة المسيحيون يهيمنون على الساحة الثقافية والمدارس والمعاهد والجامعات، وكانوا يقولون الكلمة الفصل عن معنى الاشياء. وكانت كلمتهم لا تناقش ولا ترد.

وفجأة راح ينبثق شخص جديد يدعى المثقف أو الفيلسوف لكي ينافسهم على احتكار المعرفة، لكي يسحب البساط من تحت أقدامهم شيئا فشيئا. وعلى الرغم من ان فولتير هو خريج مدارس اليسوعيين ـ اي الاخوان المسيحيين ـ إلا انه انقلب على اساتذته في ما بعد لكي يشكل التيار العقلاني المتسامح في فهم الدين المسيحي، ثم كانت المعارك المعروفة بينه وبين الاصوليين والتي سجلتها كتب التاريخ ومعظم فلاسفة التنوير كانوا من هذا النوع، بمعنى انهم خرجوا من معطف اللاهوت التقليدي لكي يشكلوا ايمانا جديدا قائما على العلم والفهم والحرية.

وهيغل نفسه كان خريج كلية اللاهوت البروتستانتي في جامعة توبنجين. وكان يمكن ان يصبح قسيسا يعظ الناس في الكنائس ويكسب رزقه عن هذه الطريقة. ولكنه فضل ان يصبح فيلسوفا واستاذا جامعيا. وانتقل بذلك من مرحلة المعرفة اللاهوتية (أي المسيحية)، الى مرحلة المعرفة الانتربولوجية (اي الانسانية) وشكل بذلك النظام الفلسفي الهيغلي الذي عنده جواب على كل شيء، تماما مثلما كان الكاهن المسيحي يجيب عن كل شيء.. ولكن المرجعية العليا تغيرت بالطبع، وكذلك المضامين والافكار.

ولكن هنا ينبغي ان اتوقف لحظة لكي أوضح نقطة مهمة: وهي ان الأنوار الفرنسية تختلف عن الأنوار الالمانية والانجليزية. فالصراع مع رجال الدين أو حتى مع الدين نفسه كان اكثر وضوحا أو حدة لدى الفرنسيين. لماذا؟ لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت اشد عداء للعلم وروح العصور الحديثة. ولذلك فإن الصدام معها كان أمرا محتوما. أما الكنائس البروتستانتية السائدة في المانيا وانجلترا وبقية الشمال الاوروبي فكانت بطبيعتها أقرب الى روح الاحتجاج والتجديد واكثر تقبلا للعقلية الحديثة. ولهذا السبب فإن الفلسفة خرجت من رحم اللاهوت البروتستانتي الليبرالي، ثم تعايشت معه بشكل سلمي الى حد كبير، ولا يزال هذا الأمر مستمرا حتى وقتنا الحاضر، ففي المانيا مثلا تتجاور كلية اللاهوت مع كلية الفلسفة جنبا الى جنب. وتستفيد الفلسفة من علم الدين، وعلم الدين من الفلسفة في علاقة جدلية خصبة ورائعة. وهذا ما ينقصنا. هذا في حين ان الفرنسيين حذفوا كلية اللاهوت (أي علم الدين) من جامعة السوربون بعد انتصار الثورة الفرنسية. والواقع ان الكنيسة الكاثوليكية بجبروتها واحتكارها للحقيقة المطلقة ما كان بإمكانها ان تتصالح مع الحقائق الجديدة التي يكتشفها العلم أو الفلسفة. ولذلك قامت برد فعل عنيف على غاليليو، وديكارت، وداروين، وسواهم عديدين. ولم تتصالح مع الحداثة الا بعد معارك طاحنة. ولم تستطع بالتالي توليد لاهوت ليبرالي إلا بعد البروتستانتيين بفترة طويلة نسبيا. بمعنى آخر فإنها لم تلق سلاحها أمام الحداثة العلمية الصاعدة بسهولة، ولم تسلّم نفسها إلا بعد مواجهات رهيبة.

هذا لا يعني بالطبع انه لا توجد نواة ارثوذكسية متشددة لدى البروتستانتيين. فقادة التنوير الالماني من ليسنغ، الى كانط، الى فيخته، الى هيغل وشيلنغ اصطدموا بالقساوسة البروتستانتيين وكانوا يرهبون جانبهم. وفيخته فصل من الجامعة بتهمة الالحاد وبعد معركة حقيقية مع المحافظين. ولكن عموما فإن الكنيسة البروتستانتية كانت اكثر تسامحا، أو اقل احتكارا للحقيقة المطلقة، من الكنيسة الكاثوليكية.

وأنا اعتقد ان التنوير العربي ـ الاسلامي اذا ما حصل يوما ما، وسوف يحصل بإذن الله، سوف يكون اقرب الى التنوير الالماني منه الى التنوير الفرنسي، بمعنى آخر فإنه سوف يحافظ على الجوهر الروحي والاخلاقي للرسالة الدينية الاسلامية السامية ويطرح ما تبقى من قشور ورواسب وتراكمات تاريخية، ولن يحصل هذا التنوير فقط بفعل عوامل خارجية كالضغط الذي يمارسه الغرب حاليا، وانما بفعل عوامل داخلية ايضا. ولكن العوامل الخارجية سوف تسرّع من العملية بدون أدنى شك. ولهذا السبب فإني لا اعتقد بأن التدخل الغربي الجاري حاليا كله سلبيات كما يرى اليمين المحافظ في الجهة العربية والاسلامية. على العكس فإنه قد يتحول الى خير ومنفعة اذا ما عرفنا كيف نستفيد منه ونجيّره لصالحنا. وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم.