تحية الى سيدات من بلادي

TT

يبحث ويتداول باستمرار كيف يؤسس المجتمع المدني عموما وفي السعودية خصوصا وكيف تبنى مؤسساته. وبعيدا عن الجدل النظري فان التجارب الاجتماعية على أرض الواقع هي المحك الحقيقي لنجاح تلك التجارب ومدى ملاءمتها. ولعل هناك واقعة حدثت أخيرا بالسعودية تبشر بميلاد جديد لمجتمع دؤوب وواع هو أول بذور المجتمع المدني السوي المنشود. فمنذ فترة قصيرة صدرت الأوامر العليا بنظام يلزم المقبلين على الزواج باجراء فحص طبي لكليهما مصدق من أحد المراكز الطبية المعتمدة التي اقرتها وزارة الصحة والتي يبلغ عددها 113 مركزاً في مختلف مناطق المملكة اضافة الى توجيه مأذوني الأنكحة بعدم اتمام عقد الزواج الا بعد احضار الشهادة الخاصة بالفحص الطبي لكلا الزوجين وتوعيتهم بمخاطر اتمام الزواج في حال اثبتت الفحوصات الطبية اصابتهما أو أحدهما بأمراض وراثية. ومسيرة اصدار هذا النظام هي في الواقع قصة «سعودية» جميلة وتستحق أن تروى لأنها تبعث على الفخر والاعتزاز اضافة الى الأمل والتفاؤل أيضا.

بدأت هذه المسيرة عام 1419هـ عندما قامت سيدتان سعوديتان وهما هدى المنصور وعبير المنابري وكلتاهما لديهما اقرباء يعانون من أمراض الدم الوراثية ويتكبدون بسبب تلك المعاناة الكثير من المال والجهد والتعب والقلق. قامتا باتصالات متعددة مع المسؤولين في وزارة الصحة والجهات الدينية المختلفة لتوعية وتوضيح متاعب ومصائب الامراض الوراثية وتكلفة العلاج والعمر الافتراضي لهم في ظل غياب الفكر المؤسسي المنظم للتعامل مع تلك الحالات وكان من ضمن ذلك انتاج فيلم وثائقي عن معاناة المرضى بشكل مثير وحقيقي ومقنع.

وبدأ التفاعل والتواصل والاهتمام يزداد وبدأ الطرح الاعلامي المحلي يتبنى الكتابة عن حالات مختلفة من المصابين بتلك الامراض ثم كان البدء في تداول الاحصاءات الرقمية المذهلة عن معدلات الاصابة في مختلف مناطق البلاد، وهو الأمر الذي كان بمثابة مكالمة ايقاظ وكان له مفعول الصدمة، اذ وضحت بعض تلك الدراسات أن نسبة الاصابة في كل من المنطقة الشرقية ومنطقة جازان ومنطقة المدينة المنورة تصل الى 30% وتبلغ 24% في باقي مناطق المملكة، كما بينت هذه الدراسات أن المصابين بمرض الانيميا المنجلية هم أكثر من 300 ألف مريض وما يزيد عن 5000 مريض بالثلاسيميا وهو مرض وراثي آخر.

اضافة الى ذلك كله هناك العبء الاقتصادي فعلاج تلك الحالات باهظ التكلفة ومستمر والدولة تتحمل صرف بنود للمرضى تحت مسمى الاعاقة الجسدية الى جانب مبلغ 600 مليون ريال أي ما يعادل مائة ألف ريال في العام الواحد لكل مريض بحسب اعاقته وحالته علما أن العدد في تزايد مستمر. تستقبل الجهة المعنية لمتابعة الامراض الوراثية في منطقة مكة المكرمة على سبيل المثال 12 حالة يوميا وهناك بطبيعة الحال آثار سلبية هائلة للاقدام على الزواج حتى مع ثبوت الاصابة بمرض من تلك الامراض كالطلاق الذي يصبح حلا وحيدا لوقف هذا النوع من الاصابات في المواليد اضافة الى عمليات الاجهاض عندما تكتشف الام اصابة جنينها بأحد تلك الامراض، ايضا السلوكيات الخاطئة كاهمال وتخلي الاسرة عن ابنائها المصابين لجمعيات رعاية المرضى وهذا بطبيعة الحال يعتبر عبئا آخر.

ولقد بدأ التجاوب مع النظام الجديد وجهزت المختبرات الطبية وأقدم الراغبون في الزواج على المشاركة في الفحص بوعي جميل. فقد تم تجهيز 8 مختبرات مرجعية من ضمن 41 مختبرا لاجراء الفحص الطبي اضافة الى أنه يوجد 9 فروع لمشروع مكافحة أمراض الدم بالبلاد. نجاح اصدار هذا النظام هو قصة نجاح رائعة تحتسب لسيدتين من سيدات الشعب السعودي، عملتا وحفرتا في الصخر ضد كل المعوقات التي يمكن تخيلها، حتى كتب لهما النجاح وهي قصة جديرة بالاحترام وجديرة بأن تقلد في مجالات كثيرة أخرى بالبلاد. بالنيابة عن كل مواطن ومسؤول نوجه لهما التحية والشكر والتقدير ولنعاونهما على تتمة نجاح المشروع ودعوة آخرين وأخريات لاتباع نفس الطريقة بحل المشاكل لا عبر الشكوى ولكن بالعمل الجماعي الجميل. وهكذا تبنى المجتمعات ويكون فيها المجتمع المدني.