عروسان وجدار.. وطرحة بيضاء مثل الأمل

TT

بينما كانت جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية مستمرةً، والجدل خارج المحكمة محتدماً، بين شعب عمره آلاف السنين يدافع عن حقه في الأرض والحياة، وبين مستوطنين مدججين بالعنف يستعمرون الأرض والمياه، طالعتنا معظم الصحف العربية بصورة كانت جديرة أن تدخل قاعة المحكمة لأنها تعبّر عما يعجز المحامون والمناضلون من أجل حقوق الإنسان عن صياغته. كانت الصورة لعروسين فلسطينيين جميلين يقفان قرب جدار الفصل العنصري. كانت العروس منال قاسم، ترتدي فستانها الأبيض وتمسك بباقة الزهور. حدث ذلك في ضاحية أبو ديس قرب القدس، بينما كان العريس محمد عاصي يشير بوجه يملؤه التفاؤل إلى طريق سوف يخطّه العروسان نحو المستقبل، رغم كل إجراءات الاحتلال العنصري القمعية التي حولت حياة الفلسطينيين إلى معاناة وشقاء يومي. إن هذه الصورة لوحدها لو قدّر لها أن تحظى بالمكانة الإعلامية التي تستحقها، لأشارت للعالم أن كلّ ما يريده الفلسطينيون هو الحياة الحرة الكريمة، وكل ما يصبون إلى تحقيقه هو أن يتمكنوا من العيش على أرضهم ككل شعوب الأرض، وأن يتمكنوا من قطاف زيتونهم وشرب مياههم وأن يصل أولادهم إلى مدارسهم والتواصل مع أرضهم وأمتهم وماضيهم والتطلع إلى مستقبل حرّ كريم.

بالرغم من الحملة الدعائية الضخمة التي أطلقتها الصهيونية العالمية والتي حاصرت بها المحكمة وأعمالها والتي شملت استقدام هيكل لحافلة والترويج لمخاوف من انعدام الأمن، فإن الصورة آخذة بالانجلاء للعالم برمته، والحقيقة آخذة في شق طريقها إلى ضمائر الشعوب في الشرق والغرب، ولكنّ المشكلة هي كم على الفلسطينيين أن يتحملوا من معاناة لا تطاق قبل أن يتوصل العالم إلى حقيقة ما يجري على الأرض الفلسطينية والتي عبّر عنها الكاتب الأميركي المشهور نعوم تشومسكي بغاية الدقة والوضوح في مقاله «الجدار كسلاح» حين كتب: «إن حقيقة ما يفعله هذا الجدار هو اغتصاب الأرض الفلسطينية وتحويل المجتمعات الفلسطينية إلى كانتونات عنصرية وزنزانات اجتماعية تبدو بالمقارنة كانتونات جنوب أفريقيا العنصرية رمزاً للحرية والسيادة وحق تقرير المصير، وهكذا يصبح هذا الجدار بوابة لسرقة أرض الفلسطينيين ومياههم وطردهم من أراضيهم ووطنهم».

وفي هذا الإطار تصبح دعوات وزير الخارجية الأميركي كولن باول لرئيس الوزراء الإسرائيلي شارون «أن يسمح للفلسطينيين أن يعيشوا حياة أفضل»، عصيّة على الترجمة في أي لغة كانت، خاصة إذا ما اقترنت مثل هذه الدعوة بالجملة التي تليها، وهي أن وزير الخارجية «يحمّل عرفات كامل المسؤولية عما يجري»؟! أما أن يقال إنه على اسرائيل أن تحسّن ظروف الفلسطينيين وتخفف من القيود على حركة سيرهم، فإن هذا يعني أن تبقى اسرائيل قوة محتلة، وأن تستمر تحظى بكل أنواع الدعم العسكري والسياسي الأميركي لتكريس الاحتلال وقتل وتهجير الفلسطينيين.

لقد صمد الفلسطينيون صموداً مشرفاً طيلة قرن من الاحتلال، صمودا يعبّر عن عشقهم لحقهم في الأرض والكرامة الإنسانية، صمودا لا يمكن أن يبديه إلا من ضربت جذور هويته في أعماق الأرض، ولكنّ المخططات لهذه المنطقة تهدّد بغطاء شرق أوسطي كبير يُبقي على الاحتلال والاستيطان، ويدعو إلى «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» ربما على طريقة «غوانتينامو». وها هي التحذيرات تتسرب من هنا وهناك عن نيات حقيقية لإقامة دويلات على أسس عرقية أو طائفية أو دينية، حيث يتم تحويل الشعب العربي إلى أقليات، وتحويل المنطقة برمتها، وليس الضفة الغربية فقط، إلى كانتونات عرقية طائفية تبدو معها سايكس ـ بيكو عقلانية ورحيمة.

أما الدعوات إلى «الديمقراطية» و«الإعلام الحرّ»، في حين يعود نمط الدعاية الحكومية الموجهة من الحقبة الستالينية إلى محطات مثل «الحرة» و«سوا»، فإنها دعوات عصرية لإيديولوجية قديمة تهدف إلى إحكام «السيطرة على العالم» والتحكم بالرأي العام وإبعاد تركيزه عما يجري فعلياً على أرض الواقع. وما يجري في الشرق الأوسط ما هو إلاّ إبادة جماعية وإعادة صياغة منطقة وتدمير الدولة الحديثة بهويتها السياسية المعروفة، بحيث تصبح الهوية الدينية أو العرقية للدويلات هي القاعدة وليس الاستثناء، وتتربع «إسرائيل» على عرش المنطقة بقدرة سلاح الدمار الشامل وبترسانة عسكرية تليق بإمبراطورية عالمية.

ولكنّ هذا المنظور هو طريق لإحداث فوضى عارمة من جديد لأن شعوب المنطقة العريقة المؤمنة بهويتها لن تستكين لاحتلال وضيم. ومهما كان الاختلال في موازين القوى اليوم، فإن هذه الشعوب سوف تنهض من كبوتها وتستجمع عناصر قوتها وتنطلق إلى العالم لتعيد حقوقها وتحافظ على هويتها ومقدراتها مهما كلفها ذلك من ثمن، وهذا درس سجّله التاريخ البشري منذ الأزل.

إن أقصر طريق إلى الأمن والاستقرار في المنطقة، يبدأ بعد الاعتراف بأن إرادة الطفل الفلسطيني المصمم على الذهاب إلى المدرسة تحت وابل من رصاص الإسرائيليين، وبأن إرادة الأم الفلسطينية العازمة على الحفاظ على العائلة رغم تدمير منزلها من قبل جرافات «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وبأن إرادة العروسين الجميلين اللذين يؤكدان بظهورهما قرب جدار الفصل العنصري بأن القتل الإسرائيلي وكل همجية أكثر احتلال دموي عرفه التاريخ، لا ترهب إرادة الشعب العربيّ في كل أقطاره، وهذه الإرادة سوف تسمو على الجراح وتصحح الدرب وتعيد صياغة المستقبل بطريقة تليق بها وبمستقبل أجيال هذه الأمة.

لقد أخذت السحب التي لبدت سماء العالم منذ أحداث الحادي عشر من أيلول بالانجلاء، وبدأت الأكثرية المعتدلة من شعوب الأرض تدرك أن ما يسمى «بالحرب على الإرهاب» باتت تأخذ طرقاً ملتوية، تعني في كثير من الأحيان الاعتداء على حرّيات الأبرياء لمجرد الشك أو الشبهة، وتعني في كثير من الأحيان بناء امبراطوريات على أساس من ايديولوجيات عنصرية موجهة ضد عرق أو دين أو لون أو قومية.

إن العولمة الحقيقية اليوم تكمن في أن تخترق أصوات هذه الأكثرية كلّ جدران العزل العرقي والعنصرية، وأن تكسر حواجز الصمت، وأن تنطلق بصوت واحد مع الحق والعدل والحرية والمساواة في الكرامة الإنسانية. إن مثل هذا المسار هو الوحيد الذي يحفز شعوب الأرض على بناء أنظمة ديمقراطية حقيقية بعد إنهاء الاحتلال والاستيطان وبعد وضع حد للعقلية العنصرية التي تشن حروبا دموية من أجل أن تتحكم بالأحداث في محاولة للعودة من غياهب القرون الوسطى إلى القرن الحادي والعشرين. عندها يتم تحقيق السلام الحقيقي والأمن الدائم لجميع شعوب المنطقة. أما إعادة اختراع الكرنفالات الإعلامية الستالينية لإخفاء حرب إبادة، وانقضاض على هوية ومقدرات بلدان وشعوب فلم تعد مجدية اليوم كما لم تكن مجدية دوماً. ولنا في أطفال فلسطين وفي عروسي أبي ديس قدوة في أن الحياة مستمرة رغم كل محاولات القهر. وأن سكان قلقيلية المحاصرة الذين يقضون ساعات على البوابات العنصرية للوصول إلى زيتونهم ومدارسهم، سوف ينتصرون في النهاية. وأنّ التاريخ البشري يشهد على انتصار الحق في نهاية المطاف على كل أجهزة الظلم والعدوان. ولن يكون التاريخ غداً إلا كما كان البارحة منتصراً للصابرين المؤمنين بقضاياهم وأوطانهم وهويتهم. ولنلقي جميعاً بكل محاولات الإحباط جانباً ونعمل كل ما بوسعنا كلٌ في مجاله من أجل الحرية والكرامة. فهناك معتقلون ومختطفون ينتظرون، وهناك أرض تتوق للحرية وهناك توق في عيون أطفالنا إلى مستقبل حرّ كريم.

* كاتبة سورية