حوار الإصلاح الشرق أوسطي: صدام المبادرات

TT

كنا قد توقعنا قبيل اندلاع حرب العراق الأخيرة أن الدائرة الشرق أوسطية لن تتمكن من الالتفاف على استحقاقات التحول المرتقب مثلما تسنى لها الأمر خلال الأزمات الكبرى التي شهدتها المنطقة من قبل. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ الحديث عن الإصلاح يعلو في مستويات وعلى أصعدة مختلفة وبوتائر متمايزة، وشكل خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش في جامعة كارولينا الجنوبية يوم 9 مايو من العام المنصرم علامة بارزة على هذا المسار بطرحه أول صيغة لمبادرة «الإصلاح» الأمريكية التي اتضحت اتجاهاتها وخطوطها التفصيلية في الأسابيع الأخيرة، من خلال المشروع الذي غدا معروفًا بتسمية «مبادرة الشرق الأوسط الكبير».

وفي الوقت الذي بدأ رسل ومبعوثو الإدارة الأمريكية يجوبون المنطقة العربية، شارحين ومقدمين المشروع الجديد المتمحوّر حول ملفات الإصلاح الكبرى المطروحة راهناً (الديمقراطية التعددية ومحاربة الفقر وإصلاح التعليم وترقية المرأة)، انطلقت «حرب» مبادرات عربية من أروقة جامعة الدول العربية في أفق انعقاد قمة تونس التي اعتبرها أمين عام الجامعة عمرو موسى «قمة حاسمة» في مسار العمل العربي المشترك.

ومن الواضح أن المبادرات العربية، على اختلافها في التوجه والمضمون، تنطلق من اعتبارين أساسيين هما: من جهة الوقوف ضد الإصلاحات الأمريكية التي تتخذ شكل املاءات مفروضة، والمقاربة التدريجية في الإصلاح والتغيير داخليًا وإقليميًا من جهة أخرى. ومهما كان مآل المبادرات العربية، التي تعتريها مصاعب المخاض العسير، إلاّ أنّ ما يجدر بصانع القرار العربي ملاحظته هو أن ديناميكية التحوّل انطلقت بالفعل، وقد يكون من العصي التحُكم فيها.

فبغض النظر عن حيثيات وتفصيلات مبادرة «الشرق الأوسط الكبير»، التي تقدمت بها الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة، فإن مشروع «الإصلاح الأمريكي» قد انطلق على عدة أصعدة بادية للعيان، أبرزها:

ـ مؤشرات إعادة بناء الدولة العراقية الجديدة بغية تأهيلها نموذجًا للاحتذاء في المنطقة. وقد اتضحت أخيراً الصيغة المطروحة للنموذج العراقي المرتقب، وأهم ملامحها هي آلية الانتخاب الديمقراطي لإدارة التعددية السياسية، والنظام الفيدرالي لتسيير التنوع القومي، وفصل الدين عن السياسة لحل مشكل التنوع الديني والطائفي، ونزع العسكرة عن الحقل السياسي بإبعاد الجيش عن دائرة الحكم وكبح المطامح التوسعية للعراق إزاء جيرانه.

ومع إن للعراق خصوصيات وسمات معروفة، تميزه عن باقي بلدان المنطقة، إلا أن الإدارة الأمريكية لا تخفي مراهنتها على تأهيله نموذجًا مشعًا في المجال الشرق أوسطي الواسع، معتبرة أنه يشكل بحكم موقعه وتركيبته البشرية نواة إقليمية محورية تنعكس أوضاعها آليا على عموم المنطقة.

ـ مبادرة الإصلاح والتسوية في السودان، التي تمت بتدخل أمريكي مباشر، وقامت على هدفين أساسيين مترابطين هما: إيقاف نزيف الحرب الأهلية الدامية التي استمرت أكثر من عقدين، وإعادة بناء النظام السياسي بإشراك تشكيلات المعارضة في الحكم وإلغاء القيود على الحريات العامة، والتخفيف من الطابع الديني للدولة لحل مشكل التنوع الديني والقومي في بلاد تشكل، مثل العراق، مخبرًا للتعامل مع اشكالات ومصاعب التعددية الدينية والإثنية التي تعاني منها جل الأقطار العربية على مستويات مختلفة.

ـ مشروع الإصلاح الأمريكي في أفغانستان بعد سقوط نظام طالبان الذي اتخذ مسارًا مغايرًا للمشهد العراقي (فرض حكومة انتقالية وتأجيل النقلة الديمقراطية) إلا أنه يندرج في الهم نفسه وهو بناء أرضية جديدة للدولة من خلال إعادة قولبة الثقافة السياسية ومراجعة الأنظمة التربوية وفرض إصلاحات اجتماعية من شأنها تفكيك قاعدة الراديكالية الأصولية.

ـ الخطوات الناجحة التي حققتها الإدارة الأمريكية على صعيد الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة العربية ـ الإسلامية، في سياق هدف استراتيجي واضح هو خفض سقف التسلح الشرق أوسطي (مع مراعاة الاستثناء الإسرائيلي). فبعد الضغط على باكستان لوقف تجاربها النووية وللمصالحة مع الهند، نجحت الحكومة الأمريكية في إقناع ليبيا بتدمير أسلحتها غير التقليدية في إطار سعي شامل لتجريد البلدان العربية والإسلامية من هذا النوع من القدرات العسكرية.

ـ انبثاق ديناميكية اختراق متزايد ونوعي لقوى المجتمع المدني العربي الإسلامي من خلال برامج واسعة رصدت لها تمويلات هائلة، لعل أبرز ما هو معلن منها هو قنوات التعبئة الإعلامية (إذاعة «سوا» وتلفزيون «الحرة») والمكاتب الإقليمية التي ستفتح قريبًا لتسويق مشروع الشرق الاوسط الكبير، فضلا عن عدة مبادرات وأنشطة نظمت في الآونة الأخيرة من قبيل تدريب الإعلاميين العرب والتجمعات السنوية وصولا إلى المؤسسة الدينية نفسها.

وبطبيعة الأمر لا يعني رصد هذه المؤشرات البارزة استكناه مخطط شرق أوسطي خفي ذي أجندة غامضة، على طريقة الكتابات الصحفية التبسيطية الرائجة هذه الأيام، كما ليس الغرض منها توهم نجاعة مشروع إصلاحي مفروض من الخارج حتى ولو كان من الواضح أن الجميع وفي المقدمة صناع القرار في منطقتنا يأخذونه مأخذ الجد ويستشعرون نتائجه الفعلية، وإنما أردنا التذكير بهذه المعطيات لتبيان حقيقة كون منعرج التحوّل قد انطلق بالفعل.

فالولايات المتحدة استطاعت فرض وقائع جديدة على الأرض، وتمكنت من إحداث حقائق موضوعية لا بد من احتسابها في أي ردة فعل إزاء المشروع الشرق أوسطي الجديد الذي تقدمت به الإدارة الأمريكية.

ولا خلاف بطبيعة الحال حول عدم توفر الصدقية الأخلاقية والسياسية لمشروع الإصلاح الأمريكي الذي وقفنا في الأسبوع المنصرم على بعض ثغراته العميقة في مستوى الخلفية والمنطلقات الاستراتيجية، بيد أنّه لا سبيل لإنكار استناده لتشخيص سليم اجمالا لوضع دائرتنا العربية، الإسلامية، ومن ثم إحساس الجهات الرسمية بضرورة التعامل معه، لا بلغة الإنكار والرفض وحدها وإنما بتقديم بديل عنه يترجم التطلع الشعبي الجماعي البديهي إلى الإصلاح والتغيير.

وليس من غريب الاتفاق ان المبادرة الأمريكية تنطلق في استكناهها للوضع العربي لتقرير التنمية البشرية في البلاد العربية الذي أعده خبراء ومفكرون عرب.

ومهما كانت الصيغة النهائية، التي ستفضي إليها المبادرات العربية، فإن مكمن الخطر هو توهم القدرة الدائمة على الاحتماء بمشروعية الاستقلال الوطني والقومي إزاء الإصلاحات الخارجية والرهان على التناقض الجذري بين ديناميكية الأمة وقوى الهيمنة الدولية.. وفي درس العراق عبرة لمن يعتبر.