نعم للدفاع عن «المرأة الإنسان».. لا لخزعبلات «القومية الأنثوية»

TT

ما أن يحل شهر مارس حتى يبدأ الإنشاد عالياً بمفردات المرأة، الأنثى، القهر الذكوري، الحقوق التي نالتها والتي لم تنلها.. إلخ. وتصبح كل «امرأة» قادرة على فك الخط، وفتح الفم، مستهدفة للاستجواب المنهمر عما نالت وعما تنتظر.

هذا «مولد» أمقته وأهرب قدر استطاعتي من أكون في زفته. لا أنتمي إلى «القومية النسائية»، ولا أنتمي بالتالي إلى التجمهر النسائي العالمي والمحلي لتحية «يوم المرأة» الذي يأتي في شهر مارس تكريساً لذكرى مناسبة غربية نالت فيها النساء شيئاً من حقوقهن.

لا أنكر المظالم الواقعة على النساء في بلادنا أو في غيرها، لكن علينا حين ننهض للدفاع عنها أن ننهض كإنسان يدافع عن «إنسان» وليس كأنثى تدافع عن «أنثى». لا أعترف بقومية اسمها «الفيمينزم = قومية الإناث!». الرجال والنساء بعضهم من بعض، كما علمنا القرآن الكريم، والأكرم عند الله هو «الأتقى».

القضايا المنفصلة، الخاصة بالنساء، مفتعلة، هي «والأعياد» و«الأيام» و«المؤتمرات» و«اللجان». يستجيش العالم لكل هذا الضجيج، ولو نظرنا إليه بحسن نية نقول: إنه ضجيج فارغ ومسؤوليتنا ألا نلتزم به أو ننصاع لهستيريته، أما لو نظرنا إليه بما يسمونه «نظرية المؤامرة» ـ التي أؤمن بها تماماً في هذه الحقبة الأورو ـ أمريصهيونية ـ فسوف نرى أن هناك من يتعمد طمس القضايا الحقيقية التي يعاني منها «الإنسان». مثلاً، الثراء الفاسد الفاحش، القائم على الاحتكار والاستغلال والمصلحة والتحالفات المريبة، المؤدي إلى صور الجوع والمرض والمذلة والمهانة والقهر والانسحاق، تلك الصور التي نراها وتؤلم أحداقنا فنغمض عنها العيون في كل مكان حولنا على الكرة الأرضية. يتعمدون طمس قضايا سحق «الإنسان» ـ أنظر فلسطين ـ ويخترعون لنا هذه القضايا الانفصالية المنعزلة السمجة التي جعلت أديبة فلسطينية تقول: «إن القضية الوطنية قد جنت كثيراً على قضية المرأة في فلسطين»، يعني حضرتها ترى أن وقوف الفلسطينيين جميعاً، رجالاً ونساء وأطفالاً، ضد العدو الصهيوني كان نكبة على ما يراه الاتجاه «الأنثوي» ـ الذي تمثله ـ ضرورة وقوف المرأة الفلسطينية ضد ـ ما تزعمه ـ من قهر الرجل الفلسطيني ضد المرأة الفلسطينية. ماذا يمكن أن نقول في هذا الكلام «النوعي» التقدمي التنويري العلماني الحضاري؟

ويستمر المد الكاسح لهذا المنطق حتى نسمع من تقول، عند استشهاد وفاء ادريس، «لا للقنابل البشرية»، وتقدم في حيثياتها تساؤلها: ماذا تقول عنا الجمعيات الأهلية بالخارج، عن «دفع» الرجل العربي الفسطيني لزوجته أو ابنته أو أخته لقتل نفسها؟ هكذا ببساطة يتم تلخيص مقاومة «الإنسان» الفلسطيني، من ذكر أو أنثى، إلى قهر «ذكوري» ضد «الأنثى». وهكذا بدلاً من أن نفرح بالوقوف صفاً واحداً متكاملاً، من ذكر وأنثى، ضد هيمنة القوة العاتية الواحدة، وضد ما تتجبر به علينا من قرارات تلزمنا بها قهراً واستعباداً، تريد حركة «الأنثوية» أن تقف «الإنسان/ الأنثى» منسلخة عن الصف «المقاوم للمحتل» للتفرغ فقط لمقاومة الأب والأخ والزوج والابن وبقية «الذكوريين» من أهلها !

يسألني سائل: «المرأة في العالم العربي مستبعدة من صنع القرار»! ويكاد يغشى عليّ من الضحك: «صنع القرار؟»، وهل هناك حقاً من يشارك في صنع القرارات، رجالاً كانوا أم نساء؟ من يشارك أميركا في صنع القرار؟ من يشارك لدينا في صنع القرار؟ من شارك عائلة صدام حسين ـ من بنين وبنات وفتوات وقبضايات ـ في صنع القرار؟ حتى في الحدود الضيقة للعائلة، هل يستطيع رب الأسرة أن يصنع قراراً؟ إن راتبه وميزانيته والتزاماته ومخاوفه هي التي تصنع له القرار بقهر احتياجاته الضرورية لنفسه ولبيته ولأطفاله.

«صنع القرار» لافتة ضخمة وراءها كم هائل من الكذب والدجل، لكنها، مع ذلك، من أهم لافتات مجموعة المطالبين بـ«القومية الأنثوية» التي تثير النعرات التي تؤدي إلى الصراع والعداء بين ما يسمونه «الفكر والإبداع الأنثوي» ومقابله «الفكر والإبداع الذكوري». إن خطاب «الأنثوية» يتشابه كثيراً مع سائر الصيحات العنصرية والنزعات الانفصالية، حتى أنه ليبدو في أحيان كثيرة كأنه صادر عن «غيتو» أنثوي أوشك أن يطالب بوطن قومي مستقل للمرأة، عبر نفس التكتيك الصهيوني الذي يستحلب المظالم ويوظف الغبن ويعمق الاختلافات ويستثمر الجراح. هذه المرارة غير الصحية يستدعيها التيار «الأنثوي» لشجب التاريخ البشري بأكمله بصفته تاريخاً صنعه الطغيان «الذكوري» في العصر «الأبوي» قاهراً العصر «الأمومي».. إلى آخر هذه الرطانة الفارغة. وتأخذ الرسالات الإلهية حصتها الوفيرة من الشجب «الأنثوي»، لأن الأنبياء والرسل كلهم رجال، وعليه فقد قررت اغلبية المتحدثات باسم الحركة الأنثوية بأن «الدين» فكر ذكوري معاد للمرأة، ومن ثمّ فلا تتردد معظم ممثلات هذا التيار في إعلان خصومتهن للفكر الديني والمنطق الديني والمفردات الدينية، وقد صرحت واحدة من الزعماء أخيراً ـ في مقابلة تلفزيونية ـ أن في الإسلام سلبيات كثيرة، خاصة في موضوع شهادة الرجل بامرأتين والميراث بمنطق للذكر مثل حظ الأنثيين!

لقد استنبطت الأنثويات صياغة لغوية هي مزيج من الخزعبلات والشعوذة، لا بد أن تدخل فيها «إحصائيات» مركبة على مقولات سابقة التجهيز من القاموس الماركسي البائد يرددنها كالببغاوات في اجترارات مكرورة تنضح بالمغالطات والتناقضات والمهاترات، فلا نستغرب ونحن نسمع احداهن تتكلم بعين ثابتة ويقين قاطع عن «العصر الأمومي الزاهر» الذي حكم الكرة الأرضية من كذا مليون سنة، ولا ندهش من أخرى تعلن اتباعها لديانة «ايزيس» باعتبارها الديانة الوحيدة التي أنصفت المرأة. ولقد سمعت احداهن في احدى الندوات تشير إلى «المؤامرة» و«المكيدة» المستهدفة للنيل من إنجازات المرأة وإهدار طاقتها الابداعية من وراء الدعوة إلى تفضيل لبن الأم على اللبن الصناعي ومد فترة الارضاع حولين كاملين! ولحقتها أخرى تنعى الوقت الذي تضيعه المرأة في رعاية وتربية الأولاد بينما كان من الممكن أن تستثمره في كتابة المزيد من الكتب والأبحاث (اختفى هذا المنطق تماماً عند استشهاد الأم الفدائية ريم الرياشي، رضي الله عنها، فهبت نفس الأنثويات لتدين الشهيدة بدعوى: كان الأولى أن ترعى أطفالها)!

لقد خرجت المرأة المصرية في مارس سنة 1919 في مظاهرات ضد المحتل الانجليزي، «مواطنة» لا «أنثوية». خرجت في هبّة جماعية مع كل «الوطن»، مع كل «الذات» المصرية، ولم يخطر في بال أحد وقتها أن يقتطع يوم خروجها ليصير وحده «16مارس: يوم المرأة المصرية»، منسلخاً عن تاريخه الحقيقي بواقع أنه كان يوماً من أيام المقاومة المصرية ضد الاحتلال البغيض. ولا حول ولا قوة إلا بالله.