حاجة المجتمعات العربية إلى النخب النسائية

TT

في صباح يوم جميل من ربيع 1933 أطل على عائلتي خبر أدخل الشعور بالفخار والبهجة والسرور على قلوب والدتي ووالدي وأختي الكبيرة، فقد فازت أختي بالمقعد الوحيد المخصص لمدينة الناصرة ـ حيث كنا نقيم آنذاك ـ للالتحاق بدار المعلمات في القدس. وكان يتم اختيار فتاة واحدة من كل بلد في فلسطين وعدد محدود من شرق الأردن، للالتحاق بهذه الدار المتميزة في نوعية التعليم فيها وقدرة الملتحقات بها وتخريج القياديات للمجتمع، وكانت المدرسة الوحيدة التي تقدم التعليم الإعدادي والثانوي والتدريب على التعليم في فلسطين.

وفي الأسبوع التالي، والكل سعيد ومبتهج، وأختي تعد نفسها للسفر، حدث ما كان يتوقعه والدي ولم يكن يخطر ببال أمي وأختي، فقد علم أعمامي في صفد بقرار والدي وفاجأونا مع أولادهم بالحضور إلى بيتنا، وهم كثرة، يوجهون اللوم الشديد لأبي ويضغطون عليه لتغيير قراره بإرسال أختي إلى القدس لتتعلم. إذ كيف يمكن لأبي، القاضي والمفتي، زعيم العائلة، والنموذج للناس، أن يأخذ مثل هذا القرار!! يغَرب ابنته إلى القدس؟ ماذا حدث في الدنيا! فالعائلة والحمد لله في نعيم مادي، تمتلك من الأراضي ما يكفي ولد الولد، ولا تحتاج إلى تعليم بناتها. واشتد النقاش وعلت الأصوات، وحدثت المفاجأة الثانية. فقد دخلت أمي وبحزم فصلت بالأمر، يساندها والدي بقرار ذهاب أختي للقدس لتلقي العلم. وكانت والدتي تدرك أهمية العلم، فهي من بين القلة القليلة التي تعلمت وعلَمت في زمن الحكم العثماني. أما والدي - رحمه الله - فكان يؤمن ايماناً قاطعاً بأهمية العلم، وكان يقول: العلم هو شريان الحياة للجميع، وهو بمثابة القلب النابض للفتاة فهو يحميها من شرَ وغوائل الزمن، ويعدًها للمستقبل لصالحها ولتربية أبنائها وبناتها التربية السليمة لصالحهم ولصالح أسرهم وصالح الأمة والوطن.

بهذه الروح وبهذا التوجه نما في نفسي إيماني القوي بأهمية تعليم الفتيات، وبأنه عن طريق التربية والتعليم تتحقق انطلاقة المرآة لتكون شريكة حقيقة للرجل في التنمية الشاملة لأسرتها وأمتها.

لقد حققت دول عربية نجاحاً كبيراً في فتح أبواب العلم للفتيات في جميع المراحل والتخصصات، وتكاد نسب تعليم الإناث تقارب تلك بالنسبة للذكور، أو تفوقها. وعلى سبيل المثال، حقق الأردن تقدماً هائلاً في التعليم بشكل عام وتعليم الفتيات بشكل خاص، بفضل قيادته الحكيمة، ابتداء من المرحوم الملك حسين، ومتابعة حثيثة من الملك عبد الله الثاني، ومساندة الملكة رانيا.

وتشير دراسات المركز الوطني الاردني للتنمية البشرية لعام 2002 أن عدد الإناث في الجامعات الأردنية بلغ 74.8 ألف والذكور 75.2 ألف. وفي البوليتكنيك وكليات المجتمع بلغ عدد الإناث 17.1 ألف والذكور 9.9 ألفا، ونسبة الطلبة من السكان على مقاعد الدراسة تبلغ 32.6% من الإناث و30.6% من الذكور.

غير ان هناك دولاً عربية ما زالت في بداية الطريق، كما لم تزل الأمية متفشية فيها بشكل مخيف في زمن أصبحت الأمية فيه هي أمية الكومبيوتر لا أمية القراءة والكتابة. وتمر الأمة العربية بمرحلة خطيرة جداً من مراحل تاريخها الطويل، وتواجه وهي في هذا المفترق تحديات ضخمة عديدة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعلمي والتكنولوجي وعليها أن تستثمر كل ما بوسعها من قدرات وإمكانات لتتصدى لتلك التحديات كي تأمن مخاطرها وتمضي مع بشائر التقدم والبناء، وتضمن لأبنائها الحياة الكريمة والمنعة والمكانة. ومن طبيعة الأمور أن تتراكم المشاكل وتتنامى إن لم نعمد إلى حلها، وعندها تصبح الفجوة الفاصلة بيننا وبين الأمم المتقدمة متسعة يصعب ردمها أو تخطيها بسهولة.

وفي استراتيجية لتطوير التربية العربية، تأكيد على وحدة الأمة العربية وأصالة ثقافتها، وإنسانيتها، ومغالبتها للتحديات الكبرى التي واجهتها والتي لا تزال تواجهها، وتأكيد على أهمية التوفيق بين الأصالة والتجديد، بين عراقة الحضارة وما تنطوي عليه القيم الإنسانية وبين مطالب تقدم العصر وما انطوى عليه من متابعة للتفجر في المعرفة، وثروة علمية تكنولوجية ومواجهة لأطماع خارجية. فهل لدى الامة العربية إرادة للتغيير تنشده عن عمد وقصد وعلى هدي، ووضوح رؤية، وتتحمل مسؤولياتها عن طواعية واختيار؟

لا بد ان تقف الدول العربية أمام التحديات التي تواجهها بالسعي إلى تحقيق التنمية المنشودة. ومن اجل ذلك فهي تحتاج إلى قادة يجري تدريبهم وإعدادهم على نحو ملائم، يملكون القدرة للتصدي لمواجهة احتياجات أمتهم وبلادهم وفي هذا الصدد يتعين مراعاة تلبية الاحتياجات التعليمية الخاصة بالموهوبين والمبدعين الذين سيشغل معظمهم ـ إذا أحسنت تربيتهم ـ مناصب قيادية في المستقبل.

وفي هذه الظروف التي نمر بها لا بد من الاهتمام الكبير بأمرين اثنين في التربية: التميز في التربية والتعليم للجميع، والاستثمار في المواهب الإنسانية. ولذا لا بد ان يكون من بين الأولويات الكبرى لكل مدرسة، أياً كان نوعها، إعداد وافر من برامج تعليمية حافزة توفر عدداً كبيراً من فرص التعلم على مستوى متقدم للغاية بحيث تتسنى تلبية احتياجات التلاميذ ذوي المواهب الفذة. وإذا لم يتحقق المستوى الرفيع والامتياز في التعليم لجميع الطلبة فانهم سيفهمون ان المجتمع لا يطالبهم إلا ببلوغ المستوى العادي وليس الامتياز في دارستهم.

ان السبيل إلى تحقيق التنمية الصحيحة المستدامة هو في تعزيز مشاركة المرأة فيها. فتمثيل الفتيات في جميع برامج التعليم العالي في البلدان العربية دون المستوى المنشود، وكذلك في معظم الوظائف الإدارية والسياسية العليا، ولن يتحقق تعزيز مشاركة النساء إلا عن طريق التعليم. وربما كان فتح فرص التعليم امام النساء من اكثر الاستثمارات مردوداً، لا سيما ذوات المواهب والقدرات المتميزة. وهذا يعني تمهيد السبيل لنشوء نخبة نسائية تتمكن من الإسهام إسهاما قيماً في عملية اتخاذ القرارات ومن ثم في تحقيق التقدم المنشود.

وفي الاردن تستمر المسيرة في التطوير التربوي التى بدأها الملك الحسين، بالمبادرات التي يقوم بها الملك عبد الله الثاني، إذ وضع في مقدمة أولوياته العمل على تطوير العملية التربوية لتواكب التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يحدث في العالم وتزويد المدارس والمعاهد ومراكز المجتمعات المحلية في أنحاء الاردن المختلفة بأجهزة الحاسوب، والاهتمام بالطلبة ذوي القدرات المتميزة، وتطوير المدارس والمراكز التي تؤمن لهؤلاء الطلبة التقدم، كل حسب قدراته ومواهبه، وهو يحث المسؤولين على تطبيق الخطط التربوية الحديثة بشكل علمي وفعال، ومن الأولويات التي وضعها أيضا العمل على تطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الاردن، وحوسبة التعليم، ونشر مراكز المعلومات الحاسوبية في مختلف مناطق الاردن، وخاصة تلك الأكثر حاجة لها وذلك لتطوير المكانة المتميزة لهذا البلد.

ان كل هذا يتطلب الثورة العلمية التقنية وإرساء أسسها وإعداد الكفاءات اللازمة لها وسريان روحها إلى الشعب عامة. وهذا كفيل ان يفتح آفاقا واسعة للتنمية الشاملة.

أما عطاء الملكة رانيا المتميز لمسيرة المرأة وتقدمها، فليس له حدود في جميع المجالات، وخاصة في المساهمة بإيصال النساء إلى مراكز صنع القرار وتدريب الفتيات في تكنولوجيا المعلومات والعناية بتعليم المرأة وتقدمها أينما كانت في المدينة والريف والبادية، رائدها في ذلك المعرفة الوثيقة بتراث امتنا وبقيمها مع الإدراك العميق لواقع المجتمع العربي، بإنجازاته وقصوره، وبالاستيعاب القادر لطبيعة الحياة المعاصرة وأهدافها ومقتضياتها، ثم بالرؤية الواضحة لدور الإنسان العربي، رجلاً كان أم امرأة، في سياق المعاصرة الإيجابية مع حراسة القيم الدينية ودعمها وتنمية الشخصية العربية المبنية على المعرفة والعمل.«فالمعرفة هي القوة - والقوة تعني التأثير على السياسات المستقبلية - والسياسات تؤثر على حياة المرأة في كل مكان».