لماذا ينهار البيت العربي من كل النواحي سقوفا وجدرانا؟

TT

هل اصبحنا حيوانات منقرضة او مرشحة للانقراض عما قريب؟ طبقا لقانون داروين في الاصطفاء الطبيعي فإن الكائنات التي لا تستطيع التأقلم مع حركة التطور والمتغيرات تموت وتنقرض. وبالفعل فهناك عدة انواع حيوانية او نباتية، بل وحتى قبائل بدائية ولغات بشرية، انقرضت على مدار القرون.

واستمرت حركة البشرية بدونها ونسيها الناس تماما. فهل سيكون مصيرنا كذلك؟

بالطبع فإن مجرد طرح السؤال يعني استفزازا ما بعده استفزاز، وانا واع لهذه النقطة. ولكني اخاطر بالعملية وابالغ في عرض الصورة من اجل توضيحها بشكل افضل، والى اقصى حد ممكن.

ربما كان ينبغي ان اعرض الامور بشكل مختلف لفهم ما يحصل الآن وما يرسم لنا من مخططات. فعلى ما يبدو اصبحنا الرجل المريض) بالنسبة للغرب، ولذلك فإنه يُعمِل فينا مبضع الجراح لكي يعالجنا من مرض عضال ويعيد تركيبنا من جديد. وهذا هو معنى المبادرة الاميركية الاخيرة بخصوص تشكيل شرق اوسط كبير يمتد من حدود المغرب الاقصى الى حدود باكستان! فتركيبتنا الحالية لا تعجب الغرب لأنها مصابة بمرض الاصولية والتطرف والحقد على الآخر. وهو ليس مخطئا في التشخيص على عكس ما يتوهم الديماغوجيون العرب. ولكنه يغض الطرف عن مسألة اخرى.

فالغريب العجيب ان بوش لا يطرح هذا السؤال: لماذا تزدهر ايديولوجيا الكره في العالم العربي؟ وهل يحق للغرب ان يهيننا في فلسطين الى مثل هذا الحد!

والاكثر غرابة وعجبا هو ان اوروبا واميركا تحاولان بطرق مختلفة منع محكمة لاهاي من قول كلمة الحق عن جدار شارون الذي يكمل ما عجزت نكبة (48) عن تحقيقه.. وبالتالي فلا اتوقع لمشروع بوش اي نجاح لأنه ليس قائما على الحق والعدل. ثم ما هذا الخلط الغريب العجيب ايضا بين عدة أمم مختلفة؟ وماذا يعني هذا التمييع للمواقف والمواقع؟ وكيف يمكن ان نقفز على الخصوصيات اللغوية والادبية والتاريخية التي تميز العالم العربي، عن العالم التركي، او الفارسي، او الافغاني، او الباكستاني؟ بعض التحليلات التي اطلعت عليها مؤخرا تقول بأن هدف مبادرة بوش هو حل القضية الفلسطينية عن طريق طمسها او محوها تماما.

فبما انه لا يستطيع ان يواجهها وجها لوجه خوفا من اغضاب اليمين الاسرائيلي واليهودي في شتى انحاء العالم، فإنه لم يجد بداً من القفز عليها وتمييعها. فمن الذي سيفكر فيها او يعطيها اية اهمية اذا ما انخرطنا في مشروع ضخم كتشكيل الشرق الاوسط الكبير الذي يتجاوز المليار شخص؟ وهكذا تُحرف الانظار عن قضية اساسية شغلت العالم على مدار قرن تقريبا ولا تزال.

ولكننا نعلم ان القفز على المشاكل لا يعني حلها، لأننا سرعان ما نجدها تنتظرنا على قارعة الطريق يوما ما. وبالتالي فمن العبث ان يهرب بوش او العالم الغربي كله من مشكلة اساسية كان هو السبب في خلقها قبل مائة سنة تقريبا (وعد بلفور 1917). اذا كان جادا في حل قضية التطرف والارهاب فليبتدئ اولا بانصاف العرب والمسلمين والمسيحيين في فلسطين، وبعدئذ يصبح كل شيء ممكنا. لا احد ينكر، الا اذا كان مكابرا، ان العالم العربي والاسلامي بشكل عام يعاني من ازمة انسدادية خطيرة. ولكن لا احد ينكر ايضا ان الغرب يساهم في تفاقم هذا الانسداد والتأزم عن طريق رفضه لتحمل مسؤوليته تجاه الصراع العربي ـ الاسرائيلي الذي يسمم اجواء المنطقة منذ نصف قرن والذي قضى على كل آمالها في التنمية والتطور.

وبالتالي فاذا كان بوش جادا في تطوير المنطقة وملئها بالحريات الديمقراطية فليبتدئ اولا بحل هذه المشكلة المزمنة والمستعصية. وبعدئذ يستطيع ان يحقق مشروعه الكبير الذي يحتوي على عناصر ايجابية لا تنكر.

والواقع انه نسخة عن مؤتمر برشلونة المتوسطي الهادف الى تقوية العلاقات بين الاتحاد الاوروبي والعالم العربي بالاضافة الى تركيا واسرائيل. ولكن مشروع بوش اوسع لأنه يضم كل العالم العربي وليس فقط الدول المتوسطية، كما يضم ايران وافغانستان وباكستان. فبوش يعتقد ان الشرق الاوسط ما دام فريسة للطغيان واليأس والغضب العارم فسوف يولّد اشخاصا وحركات معادية لاميركا واصدقائها، ولكنه لا يقول بأن سياسة اليمين المتطرف الاسرائيلي هي احد اسباب هذا الغضب العارم ان لم تكن السبب الاساسي. هنا يكمن الخلاف بيننا نحن العرب وبين الرئيس بوش في ما يخص تشخيص المرض العضال للشرق الاوسط.

ولكن فيما عدا ذلك فإننا نتفق معه على بعض القضايا الاخرى التي استمدها في الواقع من تقرير الامم المتحدة عن اسباب فشل التنمية في العالم العربي. وهذا التقرير يركز على ثلاثة اشياء: انعدام الحرية في المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة، الأمية وضعف التعليم، ضرورة تحرير المرأة واعطائها حقوقها وكرامتها كانسان.

فما دامت الشعوب العربية محرومة من حقوقها الاقتصادية والسياسية، فإن قوى التطرف والارهاب سوف تزداد فيها، وكذلك جماعات الجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية الى الخارج. ولو فتحت ابواب اوروبا لهاجر نصف العرب اليها وربما اكثر. انظر كيف يموتون في القوارب بين طنجة وجبل طارق وشواطئ اسبانيا او ايطاليا.. واما في ما يخص تشكيل مجتمع المعرفة والعلم في العالم العربي، فإننا نتفق ايضا مع الامم المتحدة والغرب كله حول الموضوع. ويهدف المشروع الى تقليص الامية بنسبة النصف من الآن وحتى عام (2010) اي خلال ست سنوات فقط. وهو مشروع طموح جدا وانساني فعلا. بل ويعطي المشروع احصائيات دقيقة اذ يقول بضرورة ـ او امكانية ـ تخريج مائة الف معلمة عربية من الآن وحتى عام 2008 فقط. ثم يتحدث المشروع عن ضرورة اصلاح برامج التعليم في الشرق الاوسط وضرورة تفريغها من كل الافكار التي تحرض على كره الآخر المختلف ثقافة، او لغة، او دينا.

وهنا نصل الى بيت القصيد، ولكننا نعلم ان تغيير العقليات عملية صعبة جدا. ولا يمكن لاميركا على الرغم من كل جبروتها ان تحققه بين عشية وضحاها. لا ريب في ان الغرب الاوروبي ـ الاميركي اذا كان جادا فعلا ومخلصا يستطيع ان يفعل الشيء الكثير، واول شيء ينبغي ان يفعله قبل تغيير البرامج والعقليات المنغلقة هو ان يقوم بمشروع مارشال اقتصادي للشرق الاوسط على غرار ذلك الذي فعلته اميركا لاوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، او على غرار بنك التنمية الذي قدمته اوروبا الغربية للدول الشيوعية سابقا بعد انهيار جدار برلين. فالتنمية الاقتصادية هي الاساس، وكذلك تقليص مساحات الفقر الشاسعة المنتشرة على مدّ النظر من الغرب الاقصى الى مشارف افغانستان وباكستان.. على هذا المحك سوف تحاسب مصداقية اوروبا واميركا. وبناءً عليه سوف نحكم على حضارة الغرب سلبا او ايجابا. وسوف نطرح سؤالا واحدا: هل هي حضارة انسانية، كريمة، معطاءة، ام حضارة انانية، تاجرة، مفرغة من كل روح؟

ولكن في نهاية المطاف فإن تطوير العالم العربي او اخراجه من محنته سوف يكون من صنع العرب اولا واخيرا. ولا احد يساعدك اذا لم تساعد نفسك. ويخيل اليّ احيانا ان العالم العربي دخل في صيرورة لها أول وليس لها آخر. فقبل عملية التركيب واعادة الصياغة من جديد، سوف يمر بمرحلة تفكيكية، وربما نزل الى الطبقات السفلى للجحيم! وهذا ما نشهده حاليا. كل شيء يتفكك من حولنا وينهار. ولا نكاد نسمع الا اصوات الانفجارات في كربلاء او الكاظمية وبغداد. كل ما هو مكبوت في اعماقنا منذ مئات السنين ينفجر في وجوهنا من جديد، والتاريخ يتطاير شظايا واشلاءً. ويستنتج البعض ان العرب سائرون الى حتفهم لا محالة. وربما اندثروا كليا بسبب رواسبهم وعقدهم التاريخية التي لا يستطيعون تجاوزها. ولكني ارى العكس تماما! ارى شعاعا من الضوء خلف كل هذا الانقسام والتبعثر والخراب.

فكل هذه الضحايا والتضحيات من فلسطين الى العراق لن تذهب سدى، ولن تنتصر ابدا قوى الظلامية الدينية، ولا فلول بن لادن او الزرقاوي والطالبان. وبما اني من اتباع هيغل في فلسفة التاريخ فسوف اقول ما يلي: كل ما يحصل حاليا هو ضروري لتعزيل العالم العربي والاسلامي من الاعماق. لقد آن الاوان لكي يقذف هذا العالم بكل ما هو مكبوت ومتراكم في احشائه منذ مئات السنين كما تقذف طبقات الارض الجيولوجية بالحمم والبراكين. بعدئذ يبتدئ البناء الجديد، اما قبل ذلك فلا. اقول ذلك وانا اعتذر لآلام العراق والعرب في هذه اللحظة بالذات. فضحايا الاجرام هي التي تنير لنا الطريق.

لذلك اقول بأن البيت القديم لم يعد صالحا لنا ايها السادة. واذا لم نهدمه بأيدينا فسوف ينهار على رؤوسنا من تلقاء ذاته. وهذا شيء لا يفهمه بوش ولا جماعته ولا يستطيعون ان يحسوا به لأن المشكلة ليست مشكلتهم وانما مشكلتنا.

نحن وحدنا نعرف ماذا يعنيه هذا الكلام. نحن وحدنا سوف ندفع الثمن: ثمن بناء بيت جديد مفتوح على الهواء والشمس والحرية، على انقاض البيت القديم سوف ينشأ البناء الجديد. لذلك قلت بأن التفكيك يسبق التركيب. لكن القطيعة لن تكون مطلقة ولا عدمية كما يتوهم البعض، وكما كنت اتوهم انا شخصيا حتى أمد قريب. ذلك انه توجد عناصر كثيرة صالحة في البيت القديم: اقصد حجارة يمكن ادخالها في تشييد البيت الجديد بعد نحتها ونفض الغبار عنها. وعلى هذا النحو سوف تكون علاقتنا مع التراث انقطاعية وتواصلية في آن معا.

كل الثقافة العربية المقبلة سوف تحاكم على اساس المعيار التالي: هل وجدت تلك الحلقة المفقودة، تلك الحلقة الضائعة التي تربط بين التراث والحداثة؟ هل عرفت كيف توفق بين الاسلام والحداثة؟ المثقف الذي يستطيع الاجابة عن هذا السؤال يستحق ليس فقط جائزة العويس الثقافية، وانما ايضا جائزة نوبل للآداب وما هو اكثر من ذلك. ولكني اكاد اراهن على انه لم يخلق بعد!

فنحن لا نزال في بداية المصارحة التاريخية مع انفسنا، هذه المصارحة التي طالما أجلناها بحجة النضال ضد الامبريالية والاستعمار. ونسينا ان المرض داخلي بقدر ما هو خارجي ان لم يكن اكثر. وما التفجيرات الاجرامية في كربلاء والكاظمية الا اكبر دليل على ذلك.