شروط الإصلاح.. حتى لا يتحول الأمر إلى إفساد لـ«القديم» وتهجين لـ«الجديد»

TT

لا يشك إلا جاحد أو مكابر في كون أوضاعنا العامة تحتاج إلى مراجعة وإصلاح على جميع الواجهات والأصعدة سواء تعلق الأمر بمجالي السياسة والاقتصاد، أو بحقلي الثقافة والتربية، وهذا ما يجعل من الإصلاح وتصحيح الأوضاع يرتقيان إلى مستوى الضرورات الملحة واللازمة التي يتعلق بها مصير الاجتماع العربي الإسلامي أفرادا وجماعات، فلا يخفى على أحد سواء كان من المعايشين أو من المتابعين لأوضاع المنطقة ما يتخبط فيه العرب من أزمات وإخفاقات جراء ما كسبت أيديهم، وجراء ما فرضه عليهم الخارج المتحكم من أزمات وندوب، فنحن من أكثر أمم العالم تخلفا وتخبطا في مجال الاقتصاد والتقانة رغم ما حبانا الله به من ثروات وموارد هائلة، ومن أكثر دول العالم تكلسا في مجال الحريات وأشكال إدارة الحكم، ونحن نقف في ذيل القافلة من جهة البحث العلمي وحركة النشر وتداول الكتاب. طبعا يجب ألا نتعسف في إصدار الأحكام القاطعة والقاسية على أوضاعنا، في ظل الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة وما فرضه من أعباء ثقيلة تطال مختلف مناحي الوضع العربي وشخوصه، وكذلك ثقل التدخل الأجنبي الذي عاود التسلل إلى المنطقة مجددا في شكل احتلال مباشر للأرض على نحو ما نشهده اليوم في العراق، فالعامل الخارجي ليس مجرد شماعة كما يعن للبعض بل هو حقيقة فاعلة ومؤثرة أشد ما يكون في معاشنا وفي سياساتنا وخياراتنا، وفي نجاحنا وفشلنا أيضا.

واحدة من الثغرات البينة وغير المبررة في تقرير التنمية الإنسانية العربية تعود إلى استغراقه في المعطيات الحسابية والمقارنات الانتقائية من دون تكوين رؤية عامة للمشهد العربي وتأثير الاستراتيجيات الدولية الكبرى فيه، وكأن تحسين أوضاع المرأة وإقامة «الحكم الصالح» وتحسين الأداء التقني كفيل وحده بتحقيق نهضة العرب المعاقة، يجب ألا يتحول هذا التشخيص إلى عقدة ذنب قاتلة ومميتة لمكامن الحركة والفعل بقدر ما يجب أن يكون هذا التشخيص باعثا لليقظة وتغليب عوامل الحياة على الموت، فالأمم الحية هي التي تجهل من عثراتها وإخفاقاتها باعثا لتتجدد والانفتاح على آفاق المستقبل، بدل الاكتفاء بجلد الذات وتعذيبها.

ولكن بما أن عملية الإصلاح على درجة من الحساسية والخطورة فإنها تحتاج إلى التسلح بجملة من الشروط والموجهات حتى لا ينقلب الإصلاح إفسادا، والتجديد تفسيخا وتبديدا للطاقات، فلشعوبنا ونخبنا ما يكفي من الخيرة وكذا من العثرات والهنات في تجارب الإصلاح المعوقة، وإذا كان التاريخ يعذر أسلافنا في ما وقعوا فيه من مطبات وأخطاء عند بدايات القرن التاسع عشر، فإنه لا يعذر أجيالنا الراهنة في مطلع القرن الواحد والعشرين في تكرار الأخطاء وعدم استخلاص الدروس اللازمة، ولعل المرء هنا يحتاج إلى التسلح بفضيلة الحس التاريخي، و إلى حسن قراءة الواقع والتقاط منحنياته وتعقيداته أكثر من قراءة الكتب ومدونات الفكر على أهميتها.

أولا: إن أي إصلاح جاد يحتاج إلى تأسيس قاعدة إجماع عام حول ما يجب إصلاحه وتعديله وما تجب المحافظة عليه وتعزيزه، حتى لا يتحول الأمر إلى مجرد ضرب لمعاول الهدم والتخريب، ومن مقتضيات ذلك تكوين رؤية بنائية واضحة المعالم والحدود حتى يحل الجديد الطارئ محل القديم التالد بصورة تدريجية وتراكمية ولا يتحول الأمر إلى إفساد لـ«القديم» وتهجين لـ«الجديد»، فالكثير من البلاد العربية والإسلامية اندفع نحو تجارب تحديثية هوجاء لم تجلب معها سوى تغذية عوامل التسلط والاستبداد بعد أن حلت الدولة المركزية القاهرة محل وحدات الانتظام الأهلية، واستبدلت سلطة الجماعات والعصائب التقليدية بالحاكم المطلق «المستنير»، إلى جانب ما نتج عن ذلك من اتساع دائرة الاستقطاب والتمزق الثقافي والاجتماعي، من هنا يجب التخلي عن ذلك المنزع القاطع الذي يميل إلى تصنيف الساحة السياسية والثقافية إلى خندقين متقابلين لا يمكن الجمع أو التوليف بينهما، أعني بذلك خندق التجديديين والحداثيين، وخندق الجامدين والمتنكبين عن العصر، لأن حركة الاجتماع السياسي فيها من عوامل الاستمرار والمحافظة بقدر ما فيها من عناصر التجدد والتغير. فالجديد والقديم، والمحافظة والتحديث لا يقاسان من جهة معياريتهما النظرية أو الايديولوجية بقدر ما يقاسان من جهة وظيفتهما الاجتماعية الحية.

ثانيا: إن أي مشروع إصلاحي جاد يجب أن يكون مسنودا بدعم الأغلبية، وأن تكون له القدرة على استيعاب أكثر ما يمكن من القوى الاجتماعية حتى يستشعر الناس الحاجة والمصلحة في أي عمل إصلاحي وتجديدي. العمل الإصلاحي ليس نظرية مجردة بقدر ما هو جهد جماعي يحتاج إلى روافع تقوم على إنجازه وتنزيله على الأرض. لعل الوجه الأبرز للأزمة التي تتخبط فيها البلاد العربية انما يعود إلى ما أسماه الباحث الفرنسي سيرج لاتوش بالتحديث دون حداثة، أي تلك المفارقة العجيبة بين رغبة جامحة في الأخذ بأدوات التحديث لما يجلبه من ممكنات الضبط والنجاعة التي تستهوي نخب الحكم الراغبة في مد أذرعها الاستحواذية على المجتمع، ولكن مع العدول عن الأخذ بأبعاد الحداثة السياسية والاقتصادية مثل الحريات السياسية والفكرية، والفصل بين جهاز الدولة وشخص الحاكم، وضمان استقلالية المجتمع المدني عن المجتمع السياسي وتقييد الحكم بسلطة القانون، واستقلالية السوق عن الإرادة التحكمية للدولة، إن مقياس التحديث والتجديد انما يقاس بمدى استفادة عامة الناس من فضائله ومكتسباته لا بما يتيحه من منافع على بعض الجيوب النخبوية.

ثالثا: إن العمل الإصلاحي يحتاج أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأرض التي يقف عليها، وكذا موازين القوى الداخلية والخارجية التي يتحرك ضمنها، إذا لا يكفي أن تكون الرؤية الإصلاحية واضحة ومكتملة حتى تسير الأمور على ما يرام. الواضح اليوم أن الخارج صار يضغط ويطالبنا بالمسارعة بالإصلاح لأنه أضحى يرانا عبئا على أنفسنا وعلى العالم من حولنا، ولذلك ليس سرا أن يتزاحم علينا مشرع إصلاح أمريكي وآخر أوروبي ـ ألماني وكل منهما يريد أن يسوق المياه إلى مجاريه ويجعل من المطلب الإصلاحي منفذا لتعظيم النفوذ وتقوية الحضور في المنطقة، ولكن إذا كان هذا الخارج يريد أن يجعل من الإصلاح مجرد مطية لتحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط الكبير أو (الصغير)، وإذا كانت الشعوب هي الأخرى قد ضاقت ذرعا بالأوضاع القائمة ولم تعد تقو على التحمل، فإن معالجة هذا التحدي لا تتأتى بالتحصن خلف الخصوصية الثقافية والسياسية للمنطقة أو بالتواري خلف مقولة المصلحة القومية والوطنية، وكأن من خصوصيات العرب المكينة الخضوع للحكم الشمولي والتجرد من القيود والضوابط القانونية وممارسة التعذيب والاعتقال التعسفي وفرض أحكام الطوارئ، أو كأن من مصلحة الشعوب البقاء مقيدة الأيدي وملجومة الأفواه إلى الأبد.

فإذا كان الإصلاح الخارجي مرفوضا ومنكورا فما الذي يمنع العرب من الانخراط الجماعي في عمل إصلاحي جاد من شأنه أن يحفظ أوطانهم الصغرى ووطنهم الأكبر، ويدفع عنهم شرور التدخل الأجنبي، ما الذي يمنعهم من البدء في الإصلاح الداخلي بديلا عن الإصلاح الخارجي؟

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية ـ جامعة وستمنسترـ لندن