أن تكون المنطقة العربية بحاجة إلى خطة إصلاح وتطوير، هو أمر لا شك فيه. وحين تبدي الولايات المتحدة الأميركية استعدادها لمساعدة المنطقة في تطوير نفسها، فإن هذا الموقف يجب أن يقابل بإيجابية. ولكن هل يعني ذلك أن نقبل الخطة الأميركية لتطوير «الشرق الأوسط الكبير»؟ الجواب: لا. والجواب الإيجابي البديل هو أن تضع المنطقة خطتها للتطوير وأن تطلب من الولايات المتحدة، ومن غيرها من الدول، أن تساعدها على وضع الخطة موضع التطبيق. وفي هذا الإطار يجب أن نحيي المواقف التي أعلنت من قبل السعودية ومصر وسوريا والتي أعلنت رفضها قبول خطة التطوير الأميركية، كما نحيي مصر بشكل خاص لأنها أقدمت على طرح خطة عربية للإصلاح.
يحتاج هذا الموقف إلى شيء من الشرح، فالخطة الأميركية ببنودها المعلنة تبدو خطة إيجابية. فهي تريد التشجيع على نشر الديمقراطية، وهي تريد توسيع قاعدة المعرفة والتعليم، وهي تريد العناية بالنساء ودورهن ومستقبلهن، وهي تريد تخصيص صناديق ضخمة للصرف على مشاريع التطوير، وهي تريد إنشاء بنوك إقليمية تتولى دعم مشاريع التنمية، وهذه كلها بنود إيجابية تمت صياغتها بكلمات طيبة، تجعل الدفاع عن المشروع أمرا سهلا، وتجعل رفض المشروع أمرا يرتد على صاحبه. هذا حين نأخذ المشروع بما يقول ويعلن، وحين نغض النظر عما يختبئ خلف ذلك.
أما حين نبحث عما وراء تلك الكلمات الجميلة والمشاريع الطيبة، وأما حين نحاول أن نقرأ ما لا يقوله المشروع وما لا يعلنه، فإننا سنصل إلى نتائج مناقضة تجعلنا نرفض المشروع من أساسه، لا لأننا نرفض الإصلاح والتطوير والتقدم، بل لأننا نريد مشروعا آخر للإصلاح والتطوير، نطرحه نحن، ونعده بناء على فهمنا نحن لمشكلاتنا والصيغ الأنسب لحلها، ونتعاون في هذا المشروع مع القوى العالمية الفاعلة كلها، وليس مع الولايات الأميركية وحدها.
المشروع الأميركي، حسب قراءتنا له، يغفل مسألة الهوية والخصوصية، وهو يفعل ذلك منذ اللحظة الأولى، حين يطرح نفسه على أنه مشروع للشرق الأوسط الكبير، شاملا بذلك دولا متعددة ومتنوعة، ذات قوميات مختلفة، وصاحبة تجارب سياسية مختلفة. ولا يجمع بين هذا الخليط كله سوى أمر واحد هو الانتماء إلى الدين الإسلامي. داخل هذا المشروع الشرق أوسطي تختفي الهوية العربية، ويختفي التطلع العربي لبناء مستقبل عربي واحد، وقوة عربية موحدة، وتحل محل ذلك هوية جديدة مائعة وغامضة إسمها «الشرق الأوسط الكبير»، ويتم ذلك من دون أن يسأل العرب، أو أن تسأل دول المنطقة، فيما إذا كانت تريد الاندماج في هذا الانتماء أم لا. وهذه مسألة هامة للغاية، تبدو نظرية في البداية، ولكنها تصبح جوهرية للغاية عندما يبدأ التنفيذ، إذ لا يمكن بناء دول من دون هوية، ولا يمكن بناء دول وتطويرها بعد أن يتم وضعها في إطار هويات بعيدة عن هوياتها الأصلية.
والمسألة الثانية هنا هي: من سيبني هذه التجربة الجديدة؟ ومن سيمول عملية البناء الضخمة هذه؟ إن الولايات المتحدة تقدم نفسها على أنها صاحبة المشروع وراعيته والممول الأول له، إنها باختصار الدولة القائدة سياسيا وإداريا وماليا. ويطرح هذا منذ البداية أن الولايات المتحدة ستكون الدولة المسيطرة والمهيمنة على هذه الدول كافة، تطبيقا لنزعتها الامبراطورية الحديثة بالسيطرة على العالم، وهي تختار العالم الإسلامي لتعلن سيطرتها عليه، ويصدف (؟؟) أن هذا العالم الإسلامي يحتوي بداخله على أكبر جزء من الثروة النفطية العالمية. وحين يقول الأميركيون من خلال موفديهم لعملية الترويج (غروسمان) أنهم سيتشاورون مع الدول المعنية في الخطة المطروحة، ولن يفرضوها عليهم فرضا، فإن الأمر سيكون هنا شبيها بمشاورات البنك الدولي واقتراحاته وخططه. إنهم يتشاورون حولها، ولكن ما أن يتم الرضوخ لها حتى يصبح البنك الدولي هو الموجه والقائد، وحتى يصبح الخروج من قبضته أمرا شبه مستحيل. إن ما تعرضه الولايات المتحدة هو خطة للتطوير تؤدي إلى خضوع هذه الدول للسياسة الأميركية، وللهيمنة الأميركية، وللسيطرة الأميركية.
المسألة الثالثة هنا: ان المشروع يتضمن دمج إسرائيل في الشرق الأوسط الكبير، ولا يقول كلمة واحدة عن الصراع العربي الإسرائيلي، أو عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ويكرر هذا الموقف الإصرار الأميركي على عدم رؤية الخطأ الكبير الكامن في سياستها القائمة على دعم إسرائيل في مواجهة العالم العربي كله، إضافة إلى العالم الإسلامي كله. لا بل إنها تذهب إلى القول (عبر عملية الترويج) إن لا دور لإسرائيل في تعطيل عملية البناء الديمقراطي في العالم العربي. إنها تبرئ إسرائيل سلفا من كل المشكلات التي نجمت عن وجودها العدواني في المنطقة. إن المنطقة العربية، من لبنان حتى المغرب، تعيش منذ خمسين عاما هاجس حروب متوالية مع إسرائيل تحميها وتمولها الولايات المتحدة الأميركية، وأدت هذه المواجهة إلى استنزاف ثروات دول المنطقة في الصرف على شراء الأسلحة وبناء الجيوش، الأمر الذي أدى إلى إسهام عامل التسلح في إضعاف عملية التنمية في المنطقة. كما أن التهديد الإسرائيلي الدائم عطل عمليات تقارب وتوحد عربية، أبسطها عجز لبنان الحالي عن استغلال مياهه بحرية، والمتاعب الكبيرة التي واجهتها كل من سوريا والأردن من أجل بناء سد صغير في أراضيهما، لاستغلال مياه تنبع وتصب في أراضيهما. وحين تصر الولايات المتحدة على تجاهل هذه المشكلة، والقول بسذاجة إن فشل محادثات التسوية العربية ــ الإسرائيلية يجب أن لا يكون عائقا أمام قبول مشروع الشرق الأوسط الكبير، تضع نفسها منذ البداية ضد مصالح المنطقة العربية، وتلزم نفسها منذ البداية بمصالح إسرائيل، بينما يرى الكل بأعينهم أن مصالح إسرائيل هي التعبير المباشر عن المصالح الأميركية العدوانية في المنطقة. ويشكل هذا الموقف، بداية، استفزازاً للدول العربية والإسلامية، تتعاطى الولايات المتحدة معه باستخفاف مهين.
المسألة الرابعة هنا: ان الولايات المتحدة تطرح مشروعها منفردة، وهي تريد أن تجر إليه الدول الاقتصادية الثماني الكبرى في العالم، بحيث يعمل الجميع في النهاية داخل الخطة الأميركية وبقيادتها. ولا تستطيع أوروبا أن ترى في هذه الدعوة سوى محاولة جديدة لفرض السياسة الأمبراطورية على الاتحاد الأوروبي واليابان والصين. وبسبب ذلك تحركت أوروبا بسرعة للرد على المشروع الأميركي، وبهدف إزالة النزعة الإمبراطورية من داخله، دفاعا عن مصالحها أولا وليس دفاعا عن دول الشرق الأوسط الكبير. وما تقترحه أوروبا هنا هو: أن تتشارك الدول كلها، وليس الولايات المتحدة فقط، في تقديم ورعاية مشروع من هذا النوع. وأن يتم التشاور مسبقا مع الدول المعنية للتفاهم معها حول الخطط التي تناسبها. وأن يكون هناك تمييز بين الدول العربية (حوض المتوسط) وبين الدول الإسلامية الأخرى. وأن يتم أولا حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي. إن هذه التحفظات الأوروبية التي ستتبلور في خطة أوروبية مضادة، تتجاوب مع الكثير من المخاوف المشروعة للدول المعنية، وتخرج المشروع الأميركي من إطاره الامبراطوري إلى إطار التعاون بين الدول، وهو أمر يتناقض جوهريا مع الأهداف الأميركية الحقيقية.
ولكن يبقى من الضروري القول إنه لا يمكن أن ترفض الدول العربية المشروع الأميركي. ولا يكفي أن تتفاعل الدول العربية مع اوروبا في صياغة المبادئ التي يجب أن تحكم أي مشروع عالمي جديد. لا بد بعد ذلك من أن تبادر الدول العربية (وكذلك الدول الإسلامية الأخرى) إلى طرح مشروعها الخاص للتطوير والتغيير، وإلا فإن السلبية ستنهزم أمام إغراءات التمويل للمشاريع الاقتصادية الضخمة المعروضة.
وإذ يعاني العرب هنا من تفلت مجموعة من الدول العربية من الالتزام بمبادئ الاستقلال والسيادة، منحازين إلى قبول تبعيتهم للولايات المتحدة، فإن هذه المسألة يجب أن تعالج بوضوح وحزم، حتى لو اقتضى الأمر تكوين الجامعة العربية ضمن إطار جديد، لا ينخرط فيه إلا من يقبل مبادئه الأساسية، مبادئ الاستقلال والسيادة والحفاظ على الهوية والتخلص من القواعد العسكرية. وإذ تتم مواجهة هذه المشكلة الآن داخل مناقشات الجامعة العربية فإن معالجتها ضمن إطار «الترضيات» أصبح أمرا عبثيا، ولا بد من موقف استراتيجي جريء ينبذ المخالفين ويضعهم وجها لوجه أمام المصير الذي اختاروه.