السير في حقل من الألغام..!

TT

لا شك في إخلاص القائمين على تقرير التنمية البشرية الأخير وكتاب بحوثه، الصادر عن الأمم المتحدة، ولا شك في محاولتهم تقصي أكبر قدر من الموضوعية في تشريحهم للوضع المتخلف لعالم العرب، مقارنة ببقية دول ومجتمعات هذا العالم. أقول هذا الكلام وأنا واثق منه، فقد كان لي شرف المشاركة في الاجتماع التمهيدي لهذا المشروع، وإن لم يحالفني حظ المشاركة في الاجتماعات الأخيرة. وأعلم علم اليقين أن المشاركين والمساهمين في هذا المشروع هم في غالبيتهم من معارضي السياسة الأميركية في العالم عامة، وعالم العرب خاصة، سواء من منطلقات ايديولوجية لا تتغير، أو نتيجة تحليل سياسي لمرحلة معينة، أو من كلا الموقفين. المهم هو أنهم في الجملة من الذين يقفون موقف المشكك من السياسة الأميركية في المنطقة والعالم، وبذلك فإنه لا يمكن اتهامهم بأنهم إنما قاموا بإعداد التقرير خدمة لسياسة أميركية معينة، أو لغاية خفية لا يعلمها كثير من الناس. فكما وصف هذا التقرير وشرح، ومن قبله تقارير أخرى، فإن المنطقة العربية هي بالفعل منطقة تسير بمنطق معكوس مقارنة ببقية مناطق العالم. فإذا كان العالم يسير إلى الأمام في مختلف المجالات، فإن عالمنا العربي يسير إلى الخلف في مختلف المجالات أيضاً.

كنا قبل ثلاثين سنة مثلاً أفضل حالاً، واليوم أصبحنا أسوأ، رغم كل الفرص وهبات الطبيعة التي رزقنا بها، فيما كانت مناطق أخرى في العالم أسوأ وأصبحت اليوم أفضل، رغم كل الصعوبات وحرمان الطبيعة الذي عانوا منه. اليابان مثلاً لا شيء يذكر بالنسبة لنا: لا ثروات طبيعية، ولا مساحة جغرافية، ولا موقع مهم، وكذلك دول أخرى مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وتايوان وغيرها، ومع ذلك هم اليوم من المنافسين في كل المجالات، فيما عالم العرب يسير وعيونه إلى الوراء، فلا أعاد الماضي المجيد المفترض، وتعثر في كل خطوة من خطواته وهو يسير متخبطاً. مجرد حقيقة واحدة تكفي لإيضاح هذا الواقع المزري، فإذا علمنا أن عالم المسلمين كله لا يمثل إلا خمسة بالمائة من اقتصاد العالم في أفضل الأحوال، فماذا يكون حال العالم العربي الذي لا تمثل كل اقتصاداته نصف اقتصاد دولة أوروبية متوسطة الحجم مثل إيطاليا. وكل المؤشرات العالمية تشير إلى تدني مستوى الحياة العربية، واستمرار تدنيها، وهذا هو الأخطر، سواء كنا نتحدث في الاقتصاد أو الكتب المنشورة، أو الإبداع، أو نسبة الأمية، أو مؤشرات الحرية وحقوق الإنسان. نعم عالم العرب غير قادر على المشاركة في الحضارة المعاصرة في وضعه الراهن، ولا بد أن يكون هناك تحول جذري في هذا العالم يعيده إلى الصواب، ويعيد عينيه إلى النظر إلى الأمام، ويعيد الثبات إلى خطواته. تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة تحاول أن تحدد المشكلة، وتحديد المشكلة هو نصف الحل. قد لا تكون تلك التقارير دقيقة تمام الدقة، وقد تحتوي على حمولات ايديولوجية معينة، ولكنها خطوة على طريق كشف أسباب تخلفنا عن بقية العالم، كما أنها وصفت المشكلة بشكل عام، وهذا هو المهم، بل هذا هو الأهم.

ولكن أن تكون النية طيبة، والغاية نبيلة، والإصلاح هو الغاية، لم يمنع الإدارة الأميركية من أن تتخذ من تقرير التنمية البشرية الأخير ذريعة لتنطلق من خلال نتائجه إلى رسم مشروعها في الشرق الأوسط الكبير. ليس سراً القول إن خير المنطقة وشعوبها ليس هو غاية الولايات المتحدة، بقدر ما هو أمنها الذاتي ومصلحتها القومية، ولا عيب في ذلك، كما أنه إذا تقاطع خير المنطقة مع المصلحة الأميركية، فلا عيب في ذلك أيضاً، فليس هناك عشاء مجاني كما يقولون. العيب يكمن في السياسة الأميركية بعد 11 سبتمبر 2001، أي سياسة العصا الغليظة، التي قد تؤدي إلى عكس مرادها، كما سبق أن قيل في مقالات سابقة. فأميركا قبل سبتمبر، وقبل انتهاء الحرب الباردة بشكل عام، كانت تبحث عن مصلحتها وأمنها، لا شك في ذلك، ومن خلال آليات من ضمنها نشر القيم الأميركية في العالم، لا شك في ذلك أيضاً، ولم تكن هناك مشكلة حقيقية مع أميركا في ذلك الوقت. لم تكن هناك مشكلة مع أميركا ودرو ويلسون ومبدأ تقرير المصير. ولم تكن هناك مشكلة مع أميركا روزفلت الذي هزم النازية، أو أميركا ترومان صاحب مشروع النقطة الرابعة، أو أميركا كينيدي ومبدأ التعايش السلمي، أو حتى أميركا كلينتون. نعم قد يكون هناك خلاف مع السياسة الأميركية هنا أو هناك، ولكن مثل ذلك الخلاف يبقى سياسياً قابلاً للحل وفق آليات سياسية معينة، ما لم تكن الايديولوجيا هي أساس التعامل مع أميركا. ولكن أميركا اليوم مختطفة من قبل يمين أصولي لا يقبل بأنصاف الحلول، ولا يعترف بحقيقة أو قيمة غير حقيقته وقيمته، وهنا تكمن مشكلة أميركا مع العالم، ومشكلة العالم مع أميركا في بداية الألفية الثالثة. بصفة عامة، يمكن القول إنه لا خلاف مع أميركا ذات الأخلاق البروتستانتية، التي من خلالها استطاعت أميركا أن تبني نفسها. ولكن تلك البروتستانتية ليست هي ذات البروتستانتية السياسية أو الأصولية التي يقول بها اليمين الأميركي الجديد. فإذا كانت بروتستانية الماضي هي من بنى أميركا، فإن بروتستانية اليوم هي من سيدمر أميركا، فيما لو استمرت أميركا غائبة عن الوعي في ظل هيمنة اصولييها.

أميركا الأصولية اليوم تبحث عن أي ذريعة من أجل أن تتدخل في إعادة تنظيم العالم، بكل دوله ومجتمعاته، ولو كان ذلك بالقوة، وهنا تكمن المعضلة في التعامل مع الولايات المتحدة اليوم. وهي إذا كانت قد استندت ـ مثلاً ـ في مشروعها للشرق الأوسط الكبير على تقرير التنمية الرابع، فإنها لن تتردد في الاستناد إلى مختلف الذرائع من أجل التدخل في شأن هذه الدولة أو تلك. وفي مثل هذه الظروف فإن العبء يكون كبيراً بالفعل على من يريدون إصلاح مجتمعاتهم، دون أن يتحولوا، ودون إرادة منهم، إلى ورقة سياسية تلعب متى ما شاء لاعبها، وتلقى متى ما شاء صاحبها. طلاب الإصلاح اليوم يسيرون بالفعل في حقل ألغام، فمن ناحية هم يحترقون من أجل مصير بلدانهم ومجتمعاتهم، ومن ناحية أخرى هم لا يريدون أن يكونوا مجرد ورقة سياسية ضمن أوراق أخرى، لتنفيذ سياسة خارجية معينة لهذه الدولة أو تلك، وهنا تكمن القدرة على إدارة الدفة وتوجيهها. فالمبادئ مطلوبة لذاتها، لا شك في ذلك، ولكن عالم الواقع ليس هو عالم المثل، فكم من مبدأ أو مطلب أجهض لا لعيب فيه، ولكنه لأنه لم يأخذ عامل الواقع في الاعتبار. وعندما نقول عالم الواقع، فإن الذهن منصرف هنا إلى تلك العوامل والمؤثرات التي قد تحرف هذا المبدأ أو ذاك المطلب عن طريقه المراد، فيتحول في النهاية إلى عكسه، إذ وكما قيل فإن طريق الجحيم مفروش بالنوايا الطيبة. هل يعني ذلك أن يصمت المصلحون من أجل أن لا يقال إنهم يخدمون هذا الغرض أو تلك السياسة؟ بالطبع ليس هذا هو المقصود، وخاصة حين يمكن التمييز بين الغاية والوسيلة، فقد تكون الغاية واحدة، ولكن الوسائل عديدة، وربما يكون الفرق بين الايجابية والسلبية هو في الوسيلة المناسبة للظرف المناسب، وليس في التنازل عن الغاية. بمعنى آخر، فإن المقصود هو وجوب أخذ ظروف معينة في الاعتبار حين القيام بعمل ما، وخاصة في ظروف دولية كالتي نعيشها، تحكم العالم فيها قوة واحدة مسيطر عليها بشكل كبير من قبل أصولية لا تختلف كثيراً عن أصولية سيد قطب أو القاعدة، التي لا ترى العالم إلا من خلال المعسكرات المتصارعة ولا وسط بين هذه المعسكرات. نحن اليوم لا نعرف الكثير عن المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير، ولكن في ظل السياسة الأميركية الجديدة بعد سبتمبر، أنا غير متفائل كثيراً به، رغم أن ظاهره التبشير بشرق أوسط جديد تتمتع شعوبه بالحرية والرفاه وحقوق الإنسان. عدم التفاؤل نابع من معرفة أن الإدارة الأميركية الحالية مسيطر عليها من قبل تيار يتبنى سياسة القوة بوصفها غاية لا وسيلة في كثير من الأحيان. لقد كان الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط يرى أن الحرب لا تكون مبررة إلا حين تنشر الحرية وقيم التقدم، كما في الحروب النابليونية مثلاً، وكذلك كان ينظر مواطنه هيغل إلى ذات المسألة. فنابليون كان يحارب مثلاً من أجل مجد فرنسا ومجده الشخصي، ولكنه كان ينشر قيم الثورة الفرنسية أينما حل، ولكن هذا لا ينطبق على أميركا ما بعد 11 سبتمبر 2001، رغم القول بقيم الإنسان. أميركا الأصولية اليوم تريد التغيير من أجل التدجين، وهو ما يسميه مستشارو الإدارة الأميركية الحالية، وراسمو سياستها الخارجية بـ"الهيمنة الخيرة ". غير ان التدجين لا ينتج في النهاية إلا كيانات مصطنعة، لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. فإذا ضاعت الكيانات أو دجنت لدرجة التشويه، فإنه لا معنى لأي شيء آخر، بمثل ما أنه إذا فقد الإناء، فبماذا يحمل الماء؟!