الإعلام المطلوب

TT

زار لندن في الاسبوع الماضي وفد من الصحافيين العراقيين الشباب بترتيب من الادارة الامريكية. وهذا مطب آخر من مطباتها. يأتون بهم الى هذا البلد المترف المنعم بمظاهر المدنية الحديثة. ما الذي ينتظرونه من وراء ذلك؟ سيدخلون المطعم فيأتيهم النادل بقائمة طعام يتجاوز طولها ومحتواها دستور بلادهم الجديد. يطلبون قطعة ستيك فيأتيهم بستيكة ارق وانعم من قيمر سرة الهندية. يخرجون من المطعم ويدخلون أحد مخازن بوند ستريت فترمش عيونهم وتضطرب قلوبهم من مشهد ما يرون. يقارنون كل ذلك بحياتهم في بغداد وما تطبخه لهم الحجية في البيت اذا وجدت شيئا تطبخه لهم. يتذكرون ويتأملون ويقارنون ويتساءلون، لماذا غضب الله عليهم وعلى اهلهم وذويهم وشعبهم وحرمهم من كل هذه الملذات؟

يفكرون أفلا يمكنهم الحصول على مثل ذلك في بلدهم؟ كيف وبأي وسيلة؟ لا وسيلة غير السرقة والرشوة والاختلاس وبيع الوطن بالرخيص. لن يستطيعوا بغير ذلك الحصول على ستيكة مثل قيمر الهندية.

يأخذونهم الى حدائق هايد بارك فيرون كل هذه الحسناوات مشطحات على العشب الاخضر لا تسترهن غير ورقة توت يسمونها مايوه بكيني مشدودة بخيط رقيق حول الخصر النحيل. اين ذلك من فطومة بنت الجيران ملفوفة بعباءتها وبوشيتها مثل قطعة دولمة باذنجان؟ يرى فترمش عيناه وتختنق انفاسه في صدره. فيلعن الساعة التي ولدته فيها أمه في علاوي الحلة او سوق الجديد او باب الشيخ او اي مكان فيه منارة.

لا. هذه هفوة امريكية اخرى. لا تفرجوهم على بريطانيا او اي بلد تسوق باصاته نساء سافرات او تدفن فيه فتاة لابسة الشورت موتى المسلمين. لا تزيدوهم هما على هم ويأسا على يأس. ابعثوا بهم الى اثيوبيا، ليروا كيف يموت الناس جوعا فيتعجبون ويحمدون الله انهم في العراق يموت الناس موتة محترمة بالقنابل والرصاص. ابعثوهم الى بنغلاديش ليروا كيف عمت الرشوة والفساد جميع الأمة صغارا وكبارا من الوزير الى الفرَّاش الصغير. يرون ذلك فيعتزون بانتمائهم الى بلد عريق الرشوة والعمولات والمحسوبيات، فيه شيء محصور بالنخبة الحاكمة فقط، ويكسرون ظهر اي موظف صغير لا يحترم مكانه ويحاول اخذ نصيبه من ذلك.

خذوهم الى اي بلد من بلدان العالم الثالث فيطلعون على الجهل والامية والخرافات والتمسك بقيم وتقاليد عفا عليها الزمن. فرجوهم عليها ليدركوا كيف وقعت هذه الشعوب بما وقعت فيه من التأخر والفقر والظلم والاستبداد نتيجة تمسكها بالماضي. هذا ما يحتاج الصحافي الشاب ان يتعلمه لينفعه. ما الفائدة من المجيء به الى بريطانيا؟ حوالي المئات من المثقفين العرب قضوا عشرات السنين في لندن ولم يفهموا حتى الآن كيف بنيت حضارتها. لم يتعلموا حتى الآن ان الامانة والنزاهة والصدق ركن اساسي في التمدن والتقدم.

تنتظرون من هؤلاء الشبان ان يتعلموا على ذلك في خمسة ايام؟