العراق... مقدمة الشرق الاوسط «الكبير»؟

TT

قبل ان تبعثر حادثتي كربلاء وبغداد، الاسبوع الماضي، أوراق القضية الشرق أوسطية الرئيسية الدائرة في حلقة مفرغة منذ وعد بلفور عام 1917، وقبل ان يتطور الشرخ العراقي الداخلي من قضية قطرية داخلية الى مشكلة عربية رئيسية مرشحة ـ وربما معدة ـ لان تصبح الازمة البديل عن المشكلة الام في فلسطين...قد تنفع العودة الى ملف الاحتلال الاميركي للعراق، ليس لتحميل جهة واحدة فقط مسؤولية التدهور الأمني المتفاقم، بل لاستعادة مسلسل اخطاء «إدارية» ساهمت في دفع الوضع الى شفير الهاوية.

طبعا،الخطأ الاول، والخطأ المميت، يبقى قرار واشنطن احتلال بلد استسهلت تعقيداته الطائفية والديمغرافية ـ أو تجاهلتها ـ في حمى مغالاتها لخطر العراق الاستراتيجي و«الارهابي» المبالغ فيه، فاطاحت بنظام حكم، مهما قيل في سيئات سيرته، كان منطلقه الحزبي العلماني وايديولوجيته القومية قادرين على فرض نمط من انماط التعايش الداخلي... لتطرح مكانه نظام محاصصة طائفية شكل اعتماده قاعدة سياسية للديمقراطية المقترحة للعراق البداية الطبيعية «للبننة» بلد لم يعتد، في تاريخه الحديث، على «تطييف» أو«مذهبة» نزاعاته السياسية.

ولم يقف التخبط الاميركي عند هذا الحد بل تجاوزه الى قرارين لاحقين عمقا الفراغين الأمني والسياسي في البلاد في وقت كان الاحتلال يمنّي النفس فيه بكسب «قلوب وعقول» العراقيين وبتحويل بلادهم الى «نموذج» ديمقراطي يحتذى.

القرار الاول كان تسريح الجيش النظامي بشطحة قلم، وهو قرار لم يفاقم معدل البطالة الخطير في العراق فحسب، بل ارتد على الاحتلال نفسه بتزويده المقاومة بمقاتلين ممتهنين وبعتاد عسكري وافر.

أما القرار الثاني فقد كان تصفية الكادرات الوسطى والدنيا لحزب البعث فيما كان المفترض من دعاة الديمقراطية في واشنطن ليس فقط السماح لشريحة حزبية رئيسية بحرية العمل السياسي السلمي بل ايضا تشجيع اي محاولة لاعادة تأهيل الحزب بحيث تتاح له استعادة عقائديته المسفوحة على مذبح «تكريتية» قيادته... فجاءت تصفية هذا الحزب القومي المنشأ والعلماني الرؤية مكملة للتصفيات التي سبق ان مارسها صدام حسين نفسه بحق عدد من الاحزاب العراقية غير الطائفية (التنظيمات القومية العربية والحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وتجمع الديمقراطيين الليبراليين)، فخلت الساحة السياسية للتيارات الطائفية والمذهبية وللقوى الخارجية صاحبة المصلحة الاولى في تحريكها.

وكأن ساحة العراق ضاقت بسلسلة الاخطاء الاميركية، المقصودة وغير المقصودة، ليتصدى منظرو اليمين الجمهوري في واشنطن لتخطيط مستقبل الشرق الاوسط باكمله فيما مستقبل العراق لا يزال على كف عفريت، فخرجوا بمشروع لشرق أوسط «كبير» اختصروا مشاكله الملحة والمتفجرة... بغياب الديمقراطية عنه.

الغريب، في هذا السياق، ان الادارة الجمهورية لم تتساءل بعد كيف يمكنها إقناع دول «الشرق الاوسط الكبير» بجدوى ديمقراطيتها ـ المفروضة من فوق ـ والحصيلة الواقعية لديمقراطيتها المفروضة ميدانيا على العراق كانت تحويل التعايش الطائفي والعرقي فيه الى خطوط تماس ملتهبة؟

المنطق السياسي العادي يقول (في حال افتراض حسن النية في خطط واشنطن الموضوعة داخل غرف مغلقة بوجه العرب): «اعطونا نظاما ديمقراطيا ناجحا في العراق... لنعطيكم آذانا صاغية لما تخططون»... وإذا تعذر ذلك اعطونا عراقا واحدا موحدا أو، على الاقل، موعدا محددا لانسحاب قوات الاحتلال كي تتعزز، بعض الشيء، مصداقية نواياكم الاصلاحية تجاه المنطقة.

ولكن، بعد ان تحول الاحتلال الاميركي الى مجرد متفرج على انزلاق العراق نحو «اللبنة» ـ إن لم يكن نحو البلقنة ـ هل يجوز توقع واشنطن من حزمة من المساعدات الاقتصادية (لا تعرضها مباشرة على المنطقة بل تحث الدول الصناعية الثماني على تقديمها) أن تكون قادرة على تحويل الشرق الاوسط الى نسخة مستنسخة عن الديمقراطية الاميركية؟

واستطرادا، هل يحق لواشنطن ان تتصور بان الدول العربية ـ حتى وان تبنت منطقها القائل بان حجم العاطلين عن العمل وغير المتعلمين والشباب المحروم من حقوقه السياسية يمثل «تهديدا مباشرا لاستقرار المنطقة والمصالح المشتركة لمجموعة الدول الثماني» ـ سيجعل هذه الدول مستعدة لتقديم معالجة ما يهدد ـ من بعيد ـ مصالح الدول الثماني الصناعية على ما يهدد من قريب أمنها واستقرارها... أي إسرائيل؟