الانتظار في الفراغ

TT

بعد عام على سقوط النظام في بغداد، ليست هناك حقيقة واحدة متفق عليها، سوى الفراغ السياسي: الاميركيون قد يمددون لأنفسهم بحجة الفوضى السائدة. والمقاومة عمل سياسي متعدد لا وجه له ولا برنامج سياسياً ولا رؤية واضحة، عدا اخراج الاحتلال. والدستور لا يزال معلقاً. والذين يتقدمون المطالبين باستعجال الجلاء الاميركي هم السياسيون الذين جاءوا الى البلد في العربات الاميركية الرسمية. والتناوب الشهري على السلطة مثل المن والسلوى. وبالاضافة الى كل هذا الفراغ السياسي هناك فراغ عسكري ومؤسساتي. وليس هناك رجل قوي ولا جيش قوي ولا حزب موجود. وهناك مائة صحيفة يومية ليس بينها واحدة تمثل حقاً الرأي العام والاكثرية الصامتة والتوافق العراقي.

هذا الفراغ السياسي هو افظع ما يصيب الأمم والدول، لأنه يغري الجميع بالهجوم أو الاقتناص; المستحقين والمتربصين والفرصيين والقمعيين وبقايا النظام. ولذلك كل فريق يراقب الآخر. والخوف أن يزحف المقبلون من حيث لا يتوقع أحد، كما يحدث في مثل هذه الحالات من الفراغ. وفي العام 1917 دخل موظف في الخارجية النمساوية على الوزير وقال في ارتجاف: «لقد قامت ثورة في روسيا». فردّ الوزير ضاحكاً: «لا تقل لي ان ليون تروتسكي ترك مقعده في مقهى «الكافيه سانترال» في فيينا لكي يشعل الثورة في روسيا». فأجاب الموظف: «هذا تماماً ما حدث يا صاحب السعادة».

لم يكن البلاشفة مستعدين بعد للاستيلاء على الحكم، لكن فلاديمير لينين لم يصغ الى النصائح بالتريث. إما الآن وإما أبداً. وفي المقابل كان «الجيش الابيض» يستعد هو ايضاً للانقضاض، والنتيجة كانت سنوات الحرب والتخبط والفوضى والانتقال من تجارب لينين الى تجارب ستالين. هناك فراغ سياسي في العراق وحوله من النوع المخيف: تركيا تنحسر وتتردد وايران تتحرك سراً والعرب يعدّون الورقة المضادة لـ «الشرق الأوسط الكبير»، وهم لا يدرون ايهما اكثر الحاحاً: فلسطين التي يغتال فيها «المسلحون» مستشار عرفات، ام كربلاء التي وصل اليها اشاوس السيارات التي تشوي الناس في الشوارع ولا يتوافر لهم من سيارات اسعاف سوى عربات بيع الخضار. تلك هي مرتبة الانسان العربي وموقعه الحقيقي: اشلاء لا يليق بها أكثر من عربة خضار، يدفعها اناس يائسون نحو أقرب مستشفى.

جميع المواعيد تقترب. القمة العربية تقترب، وقد سافر مضيفها الى اميركا مسبقاً لكي يكون على بينة من الامور. وموعد الخروج الاميركي الرسمي من العراق يقترب. والجدار الاسرائيلي يتمدد. والدول العربية تنسحب في صمت الى مربعاتها. والاتحاد المغاربي الكبير الذي لم يستطع الاتفاق منذ ولادته على مكان او موعد اجتماع، متفق الآن على ان الديمقراطية هي الحل، وتفكيك اكوام الاسلحة المتراكمة هو الأمل المنشود. والدول التي كانت تقود جميع العرب للاحتفال معها بأعياد الجلاء عادت إلى رفع شعار الضيافة العربية الأصيلة: يا ضيفنا لو زرتنا!

فراغ سياسي مخيف، وتلعثم، وتعثر، وبحث عاجل عن مخارج بطيئة ومعقدة ومتعرجة. ونبدو اليوم مثل سكان القلاع الذين كانوا يلتهون بالاحتفالات ويتركون للطوارىء بعض السراديب. كل الاشياء تدهمنا مرة واحدة. ودفعة واحدة. وعلى باب القلعة يلتقي المدّ والجزر. وعلينا ان نصدّها معاً بيافطة جديدة. وخط نسخي واضح، واليافطات أم الحلول.