صدام .. كره الفلسطينيين كما كره شعبه والآخرين

TT

انشغل صدام حسين بقضية فلسطين على نحو لم يسبقه اليه او يضاهيه فيه اي حاكم عراقي او عربي آخر او اسلامي سابق. حيث اصبحت هذه القضية هي الذريعة الاساسية لتبرير كل سياساته الداخلية والاقليمية والدولية على مدى العقود الثلاثة ونيف التي حكم فيها العراق.

فقد دشن حكمه في عام 1968 بسلسلة من حفلات الاعدام الجماعي لعراقيين مسلمين ويهود ومسيحيين ادينوا في محاكمات صورية عاجلة بالتآمر والتجسس على النظام العراقي الجديد لصالح اسرائيل. وانهمك من ذلك الحين، في سلسلة اخرى طويلة من السياسات والممارسات التي بلغت حد توظيف الجريمة والارهاب والحرب ضد منظمات المقاومة الفلسطينية وعدد من الدول العربية والاقليمية. وكان كل ذلك على خلفية القضية الفلسطينية، حتى انه برر حربه على ايران بحجة ان ايران الشاه او الخميني انما تتآمر عليه لالهائه عن قضيته القومية التي هي تحرير فلسطين، ولم يتردد لدى غزوه الكويت في القاء نفس التهمة على الكويتيين والدعوة للربط بين انسحابه من الكويت وانسحاب اسرائيل من الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وتساءل كثيرون عن السبب الذي يدعو حاكما عربيا تفصل بلاده عن بقعة الصراع آلاف الاميال، ولا تحدها معها حدود ولا تربطه بالصراع اية مشاكل مباشرة تذكر، الى مثل هذا الانهماك الاستثنائي. وعزا البعض ذلك الى آيديولوجيا حزب البعث الذي ينتمي اليه، وقالوا بأنه يستمد ثقافته السياسية من التاريخ القديم والوسيط للعراق والمنطقة ككل، وبأنه يحلم بتنفيذ مشروع البعث على طريقة نبوخذ نصر او صلاح الدين. وقال آخرون بأن سياسات صدام حسين عقلانية وموضوعية، حيث لم يتردد في بعض الاحيان في اللجوء الى البراغماتية في معالجة الكثير من الامور، بينما قال غيرهم بأنه مجنون معزول عن الواقع ولا يمتلك القدرة على صياغة اية استراتيجية او اية سياسة عقلانية.

ان جردة سريعة لاهم محطات سياسات صدام حسين الفلسطينية كفيلة بأن تساعد على اضاءة الاسباب الفعلية التي قادته الى هذا الانغمار العميق في القضية الفلسطينية.

كان انقلاب عام 1968، الذي أتى بصدام حسين الى الحكم الفعلي ثم الرسمي في العراق، نتاج حرب حزيران 1967ونتاج تطلع النظام الجديد الى ملء الفراغ السياسي الذي احدثته الهزيمة في المنطقة والتحكم في ما سيحدث فيها من تطورات لاحقة. فانتهاء سطوة جمال عبد الناصر والصعود المفاجئ لمنظمات المقاومة الفلسطينية قد أثارا في النظام العراقي الجديد مخاوف من احتمال سيطرة المنظمات الفلسطينية بدعم سوري على الاردن، حيث يمكن لمثل هذا اذا ما تحقق ان يقود الى احتمالين: تشكيل قطب سوري ـ فلسطيني يملأ الفراغ السياسي في المنطقة على حساب العراق، او اندلاع حرب جديدة توصل اسرائيل الى حدوده.

لذلك، أخذ النظام العراقي يسعى لاستقطاب المنظمات الفلسطينية ودفعها، بالترغيب تارة والترهيب تارة اخرى، الى الانتقال بكوادرها ومقاتليها الى العراق. وقد بدت تلك المحاولات غريبة جدا للمنظمات الفلسطينية التي كان جهدها منصبا على التواجد في المناطق المحاذية لاسرائيل. وقد تواصلت تلك المحاولات بعد المواجهات الدامية التي حدثت في الاردن عام 1970، والتي اسهم النظام العراقي بدور مباشر فيها، بدءا من تحريض المنظمات الفلسطينية على رفض خطة روجرز التي قبلها جمال عبد الناصر، وانتهاء بالاحجام عن مساعدتهم، بعد ان كان قد تعهد بذلك قبل بدء المواجهات، ويبدو ان النظام العراقي، وفي سياق محاولاته لجر المنظمات الى العراق، قد وجد في احداث الاردن فرصة، اما ان تؤدي الى القضاء على المنظمات الفلسطينية او الى اضعافها الى حد تضطر فيه الى اللجوء الى العراق. غير انها ما لبثت ان انتقلت الى لبنان.

بدأت، منذ ذلك الحين، مرحلة جديدة في سياسات النظام العراقي، غطت كل فترة السبعينات، وهي سياسات تركزت اساسا، وبخاصة بعد حرب اكتوبر (تشرين الاول) 1973، على الحيلولة دون انخراط المنظمات الفلسطينية في جهود التسوية السياسية التي تسارعت منذ ذلك الحين، حيث تبنى النظام ما اصبح يعرف بجبهة الرفض، وحاول من جهة اخرى، شق منظمات المقاومة الفلسطينية. وتمكن في عام 1974من استقطاب عدد قليل من العناصر غير الرئيسة، في مقدمتهم صبري البنا ابو نضال، الذي ما لبث ان تحول على يد المخابرات العراقية الى مجرم عتيد قام على مدى السبعينات بعدة عمليات ارهابية ضد الفلسطينيين وبعض الدول العربية لمصلحة النظام العراقي. وكانت محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي شلومو آرغوف في حزيران 1982، اول العمليات ضد اسرائيل وآخر العمليات التي يقوم بها أبو نضال بأمر من النظام العراقي.

في اوائل الثمانينات، كان صدام حسين قد اشعل الحرب على إيران ولم يعد لديه الوقت للانشغال بالمنظمات الفلسطينية، فسارع الى استغلال التوتر الحاصل في جنوب لبنان بالايعاز بعملية آرغوف التي وفرت الذريعة المطلوبة من اسرائيل لاجتياح لبنان وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من المشرق العربي كله. وبذلك يكون صدام حسين قد اسهم مباشرة او غير مباشرة في طرد المقاومة الفلسطينية من بلدين مجاورين لاسرائيل، اولا من الاردن، وثانيا من لبنان.

خلال الثمانينات، لم تعد منظمات المقاومة الفلسطينية تحتل اية اهمية في سياسات صدام حسين، الذي انهمك في حربه مع ايران، وفي اعادة ترتيب اوراقه واولوياته، فطرد ابو نضال، واعاد علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة التي ما لبثت ان قلبت ميزان الحرب لصالحه واخرجته منتصرا من تلك الحرب.

في اواخر الثمانينات، كان صدام حسين قد امتلك من عناصر القوة ما لم تمتلكه اية قوة عربية. فهو قد حقق الانتصار على ايران، وعقد تحالفا مع اكبر قوة عالمية هي الولايات المتحدة، وحصل على دعم ومباركة الغالبية العظمى من الدول العربية التي طالما تخاصم معها، وامتلك مخزونا هائلا من الاسلحة التقليدية وغير التقليدية، كما امتلك مخزونا نفطيا هائلا ينتظر الاستقرار السياسي لترميم صناعاته وفتح الخطوط الاقليمية لايصاله الى بحار العالم. في تلك الاجواء اخذ صدام حسين يتحدث، ولأول مرة، عن حاجة اسرائيل للامن والاستقرار، وتواترت الشائعات عن اتصالات سرية مباشرة او غير مباشرة بين عراقيين تابعين للنظام واسرائيليين. واذا جاز لنا الاستنتاج في شأن حصيلة سياسات صدام حسين الفلسطينية حتى ذلك الحين، يمكن القول بأن صدام حسين قد تطلع باستمرار منذ عام 1968، الى تحقيق التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل، بحيث يتم تقاسم المنطقة العربية بالتوافق او التنافس بينهما وفقا لما تسمح به موازين القوة. وبذلك فهما يحتكران التسوية ويتحكمان فيها وفقا لمتغيرات هذه الموازين، حيث شكلت منظمات المقاومة الفلسطينية بسياساتها غير المتناسقة تماما مع سياساته، عبئا عليه وعلى تطلعاته. وقد بلغ صدام حسين في اواخر الثمانينات حدا من الثقة بالنفس وبالامكانيات ما جعله يعتقد بأنه قادر على البدء بتقاسم المنطقة، فغزا الكويت! وبعد ان كان ما كان، لم يكف عن المكابرة، وعاد الى عادته القديمة بالتحدث عن تحرير فلسطين من النهر الى البحر.

لقد كره صدام حسين الفلسطينيين كما كره شعبه والعرب الآخرين، غير ان الشارع الفلسطيني احب اسلحة الدمار الشامل الصدامية، وظل حتى آخر يوم من ايام حكم صدام حسين واثقا من انه ما زال يمتلك مخزونه من تلك الاسلحة، وبأنه سينهض كالعنقاء من الرماد بعد ان يلحق الهزيمة بالاميركيين لكي يحرر فلسطين. ولم يكن ممكنا لقطاعات واسعة من هذا الشارع ان تقبل بفكرة ان الفلسطينيين سيكونون اول واكبر الخاسرين اذا ما تحقق التوازن الاستراتيجي بين العراق واسرائيل، وان صدام حسين كان ينظر الى شيء اعتبره اكبر منهم ومن قضيتهم. ومع الاطاحة بصدام حسين حزن الكثير من الفلسطينيين، ليس على صدام حسين، وانما على اسلحة الدمار الشامل الصدامية التي كانت ستحرر فلسطين.

غير ان الصدمة ما لبثت ان وقعت حين لم يعثر المفتشون الدوليون على اية اسلحة دمار شامل في العراق، وبأن تلك الاسلحة قد تكون دمرت منذ عام 1994 . واذا ما ثبت حقا انها غير موجودة وانها دمرت منذ ذلك الحين، يكون صدام حسين قد ختم حياته السياسية بآخر اكاذيبه على الفلسطينيين.

* كاتبة فلسطينية ـ غزة